حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الكاتبة أندلس رشدي حسن
لا شك في أنَّ الحديث عن عميد الأدب العربي طه حسين، يحتاج إلى جهد كبير، وإلى مثابرة وعمل دؤوب ،فأنَّى لنا أن نأتي بكلمات توفيه حقه، من المديح والثناء على ذلك المجد التليد الذي آل إليه من بعد جهاد واجتهاد، وأنَّى لنا أن نعثر على عباراتٍ ترقي لمكانته الأدبية التي ازدانت بها الدنيا فازدادت إشراقا ونورا.
فإن بدأنا الحديث عنه، فلابد أن نقتفي أثر ذلك الطفل الضرير، الذي اجتاز بمهارة سياج الوهم، الذي كان يفصله عن ذلك العالم الخارجي الذي يلي قريته الصغيرة، فاستطاع أن يسابق الزمن، وأن يتخطى كل الصعوبات التي واجهته، وأن يخرج إلى عالم أكثر رحابة وأكثر اتساعا، لكي يصبح بعد ذلك عميد الأدب العربي بلا منازع.
كانت حياته تتأرجح بين السعادة والشقاء، وبين اليأس والرجاء، تلك الحياة التي كانت تضج من حوله بأحداثها العصيبة التي آلمته إيلاما شديدا، والتي كان لها أبلغ الأثر في تشكيل شخصيته ،التي بُنيت دعائمها على التحدي والإصرار وقوة الإرادة.
ولقد كان كتاب "الأيام" هو الرواية الخالدة التي تُعَد بمثابة تأريخ لحياته التي عاشها بحلوها ومرها، ذلك الكتاب الذي تُرجِم إلى عدة لغات عالمية، لما تضمنه من قيمة أدبية كبرى، متمثلة في السيرة الذاتية الخالصة لذلك الأديب العملاق، والذي أملاها هو بنفسه، فجاءت مرآة صادقة تكشف بوضوح وجلاء عن جوانب شخصيته ،التي كان يغلب عليها نقاء الفكر،وعبقرية الذهن، وصحوة الضمير.
إنه ذلك المفكر الكبير الذي يُعَد بحق رائد حركة التنوير والحداثة في مصر، بل وفي العالم العربي بأسره، فلقد استطاع أن يقود ثورة فكرية على المعتقدات القديمة البالية ،وأن يدعو إلى فتح المجال أمام العقول الواعية لكي ترسم لها طريقا جديدا في عالم الأدب، بعيدا عن خزعبلات الماضي وأفكاره الجامدة.
هو ذلك الأزهري المعمم الذي تلقَّى تعليمه الأزهري بين أروقة الأزهر،والذي كان مثالا للطالب الذكي المجتهد ، فكان يناقش الشيوخ فيما يقومون بتدريسه للطلبة من فروع الدين المختلفة، وكان يدخل معهم في جدال مستمر حول تلك العلوم، ولكنه لم يكن ليتلقى منهم أية إجابات شافية عما يدور في رأسه من أسئلة محيرة كانت تؤرقه ليل نهار ، فكان يتنقل من شيخ إلى آخر ، ومن درس إلى درس، حتى ضاق به أكثر هؤلاء الشيوخ الذين ما فتئوا يتندرون عليه ،الأمر الذي أحدث بنفسه جرحا شديد الغَوْر ، فكانت الفرقة بينه وبين الأزهر، ثم الاتجاه للجامعة المصرية ،ودراسة علوم الأدب ،بدلا من علوم الدين.
وما كانت أيامه في الجامعة المصرية سوى سلسلة من الكفاح المستمر الذي لا يهدأ ولا ينقطع ، والذي أسفر عن تأليف كتابه " في ذكرى أبي العلاء" ، والذي تقدم به إلى الجامعة لنيل شهادة الدكتوراه ،والتي حصل عليها بتفوق ، وكان ذلك في عام 1914 م.
ومن الأزهر والجامعة المصرية كان سفره إلى باريس وكانت دراسته في جامعة السربون، حيث نال شهادة الدكتوراه عن رسالته التي تحمل عنوان "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" سنة 1917م،ثم عاد إلى مصر حاملا معه لواء التنوير والتجديد ،فقرر تدريس التاريخ اليوناني لتلامذته في الجامعة، ذلك القرار الذي استحسنه البعض ورفضه البعض الآخر.
هو ذلك المفكر الذي لم يبخل بعلمه وأدبه على أبناء وطنه، فكان يكتب المقالات في الصحف والمجلات الأدبية ، مثل جريدة "السياسة "،تلك المقالات التي جُمِعَت بعد ذلك في كتاب بعنوان حديث الأربعاء.
وما كان دأبه في تفسير نظرية الشعر الجاهلي إلا تأريخا جديدا للأدب ،و إعمالا للمنهج الديكارتي في البحث ، فأصدر كتابه" في الشعر الجاهلي" سنة 1926م ، ذلك الكتاب الذي أحدث انقلابا في الأوساط الأدبية ،فقد اعتبره البعض خروجا عن الدين وطالبوا بمصادرته حينذاك.
كان منهجه في البحث يعتمد على الأسس العلمية الصحيحة، فكان سابقا لعصره في كل ما يطرحه من قضايا وآراء ، وكانت أفكاره ومبادئه نبراسا يستضيء به العالم من حوله ،فقد كان معينا لا ينضب من رجاحة العقل ، وسلامة التفكير، ومثالا يحتذى به في النبوغ والتفوق .
كانت له أخلاق المقاتل الجسور الذي لا يعدم حيلة ولا وسيلة في سبيل نصرة أفكاره ومبادئه، فهو الذي كان يدعو كل الأدباء إلى ضرورة الالتزام بالفكر الصحيح والسليم ،على أن يكون ذلك الالتزام نابعا من أنفسهم ، ،وليس إلزاما عليهم من أحد .
كان قاصا بارعا وأديبا متمكنا من أدواته ، وناقدا يشار إليه بالبنان، ولكم أثرى حياتنا الثقافية بتلك الروايات الأدبية، وتلك الكتب التاريخية ،التي تعد كنزا لا يفني على مر التاريخ والعصور، والتي تعد موسوعات أدبية تحظى بشهرة محلية وعالمية.
كان مشغولا بهموم وطنه ،فكان يريد تحرير مصر من الظلمة والفقر والجهل ،كان كنبع الماء الرقراق الذي يفيض على ربوع مصر، فيسقيها من علمه الغزير، ومن فيض معرفته التي لا ينضب معينها أبدا على مر الأزمان.
هو الذي عاش حياته في صراع دائم في سبيل تحقيق حرية الفكر، وفي سبيل إعلاء راية لغة الضاد خفاقة عالية في الآفاق.
هو الذي قال عندما سئل عن شعوره تجاه تكريمه ومنحه وسام قلادة النيل:
"هو الشعور بأصدق الشكر وأجمله لهذا الفضل العظيم وأرجو من الله عز وجل أن يجعلني له أهلا"
نعم، فنحن نقولها بكل صدق ،إنَّ طه حسين كان أهلًا لذلك التكريم عن جدارة واستحقاق، وذلك لأنه من الأدباء القلائل الذين رفعوا لواء حرية الفكر ،ورسائل التنوير ،وأسسوا منهح البحث الأدبي الحر.
سلامٌ لروحه الأبية ،التي ما تزال ترفرف في سمائنا، حتى بعد رحيله، ذلك العبقري الموهوب الذي ترك لنا متحفا عظيما وأطلق عليه اسم "رامتان" فأصبح مزارا نلتمس فيه ذكرى عميد الأدب العربي طه حسين.