عاطف محمد عبد المجيد يكتب: تنتهي الحروب..لكن تظل مآسيها!

  • جداريات Ahmed
  • السبت 18 يوليو 2020, 7:43 مساءً
  • 1968
عاطف محمد عبد المجيد

عاطف محمد عبد المجيد

 

 تبدأ سونيا بوماد، الروائية اللبنانية التي تقيم في النمسا، روايتها التفاحة الأخيرة الصادرة منذ سنوات عن مكتبة الدار العربية للكتاب، بمشهد روائي مؤثر للغاية، إذ تروي على لسان الراوي ما نصه:   

 ” يا لأبي المسكين! ليتهم قتلوه قبل والدتي وشقيقتي، فقد قتلوه بهما آلاف المرات، وجسد حبيبته يُستباح، وهو مقيد لا حول له ولا قوة..هذا شَعرها الذي سرّحه، عيناها حيث سكن، هذان خدَّاها اللذان قبّلهما قبل الشفاه، هذان ثدياها الصغيران اللذان أحبهما وتلذذ بهما كما الرضيع، هذا حضنها الذي افترشه سريرًا، هذا مأوى ذكوريته الذي أفرغ روحه ومشاعره فيه، تقتحمه شهوات الكلاب المسعورة. كذلك، وقبل أن تضع نقطة روايتها الأخيرة، تختتمها بمشهد مؤثر، يصف ما خلّفته الحرب بالبلاد والعباد:                                                                

    ” أمسكتُ يد أوليفر الصغيرة ويد ألبرت التي حضنت جرحي، ومشينا هناك في أحياء موستار.اجتزنا جسر ستاري موست، حاولنا أن نغض النظر عن عيون الناس في بلادي، العيون التي لا تزال تحمل صور الحرب.تنشقنا نسيم الصباح المنعش، الذي كان يحمل إلى الآن شيئًا من وجع تلك الأرواح التي تطوف هناك، ودَّعْنا بلادي..ودّعت البوسنة الحبيبة بآخر غروب لنا هناك، وعدنا لنكمل حياتنا حيث بدأناها..على أمل أن تغسل أمطار الشتاء القادم وثلوجه البيضاء سواد القلوب والحرب ومآسيها .

بوماد تتحدث هنا في روايتها عن الحرب وويلاتها، من قتل واغتصاب وتهجير، بلغة مؤثرة، مصورةً، وبحزن شديد، ما يرتكبه الإنسان في حق أخيه الإنسان.       إنها رواية يمكن لنا أن نصفها بالرواية المأساة التي لم تكتفِ الروائية فيها بوصف الشخصيات من الخارج، بل دلفت إلى أعماقها، معبّرة عما يجول في خواطرها من أحزان وآلام تكبدتها دون ذنب، وسبّبها لها القتلة ومجرمو الحرب.     

              إنها رواية مأساوية بكل ما تعنيه الكلمة، تؤلم قارئها، إذ ترصد وقائع الحرب في منطقة البوسنة في تسعينيات القرن الماضي، غير أنها رغم مأساويتها رواية ممتعة ومدهشة على مستوى الصياغة اللغوية والحبكة الروائية، وعلى مستوى السرد الروائي المتقن، الذي تُظهر بوماد من خلاله أبعاد موهبتها الروائية.                

   إلى جانب هذا توظّف بوماد في روايتها، قدرتَها على السرد، مُصورةً مشاهد إنسانية مؤلمة عبر لغة بسيطة وأنيقة تستغني عن الزوائد، التي تؤثر سلبًا لا إيجابًا، على المجرى الروائي.لقد نجحت بوماد كذلك في أن تجعل قاريء روايتها يتعاطف إلى حد كبير مع شخصياتها، التي قست عليها الحياة، مُسلطة عليهم نوعًا من البشر لا يمكن بأي حال، إلا أن يُحتجزوا في غابات للحيوانات المفترسة.                 

    لقد رصدت بوماد هنا أفعال القتلة وصنيعهم مُعرّية إياهم أمام الجميع، لاعنة إياهم وما فعلوا من قتل واغتصاب، حتى أن معظم صفحات الرواية تحتوي على كلمات من حقل القتل مثل: قتلة، انتقام، ألم خانق، ذبح، ضحية، مجرم، غرفة إعدام، وغيرها.                                                                                

   في الرواية يحدث تناوب سردي ما بين رجل وأنثى، بين مجرم وضحية:              ” كانت تلك الصورة لنصفي الآخر في داخلي قاتمة ومشوشة، رغم مرور هذه السنين الخمس عشرة، فما زالت صورة الموت والقتل تؤرقني، إلى درجة أني كنت أشم رائحة الدماء في أنفي وألمسه في حواسي.ليس سهلًا أن تقتل وتحصد الأرواح على مدار أربع سنوات وتعود بعدها لتحيا كأن شيئًا لم يكن “.              

      كذلك تعيش الأنثى طوال الرواية حياةً تملأها القسوة والجراح والتعذيب البدني والنفسي:     مسحت دموعي وأنا أحدق في السماء، محاولة أن أستشعر ما أفتقده.          

       لقد بات بيني وبين الله والدين سور، لا يمكنني تجاهله ولا اجتيازه .                        

             وبعد..هذه رواية خاصة تحتاج إلى استعداد نفسي خاص، للتفاعل معها وتلقّيها، حتى لا تترك، في النفس، مَشاهدُها وتفاصيلُها المؤلمة، جُرحًا غائرًا لا يندمل حتى مع مرور عشرات السنين.

 ........................................................

شاعر ومترجم 

 

تعليقات