غادة صلاح الدين تكتب: إطلالة حول رواية "الحيوان الأخرس" للروائي أشرف الخضري

  • جداريات 2
  • الجمعة 17 يوليو 2020, 2:32 مساءً
  • 1220

بعد أن أثارت مجموعته القصصية الأولى "في ثقب بيضة" ضجة كبيرة في الوسط الأدبي المصري، وأفتخر أنني عبر صالون غادة صلاح الدين الثقافي وبالتعاون مع ملتقى السرد العربي، قد شرفت بعمل عدة ندوات للمجموعة اللافتة، والتي ناقشها عدد من كبار النقاد في مصر، حيث وصف الناقد الكبير "د. حسام عقل" الروائي أشرف الخضري بأنه كوة ضوء مبهرة في المشهد السردي الجديد، كما أطلق عليه لقب "الروائي الأمل".

وفي هذه الإطلالة القصيرة يسعدني كثيرا أن أكتب عن رواية "الخضري" الأولى التي أصدرتها "أفاتار للطباعة والنشر" لمؤسستها الشاعرة الكبيرة "د. زينب أبو سنة".

وكنت عبر صالون غادة صلاح الدين قد قدمت ندوة لمناقشة "الحيوان الأخرس" بملتقى السرد العربي في العام الماضي.

الرواية التي تضم تسعة وعشرين فصلا في مائتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط، وقد لاقت رواجا قرائيا وإعجاب العديد من الأدباء العرب والقراء في دول شقيقة كالجزائر والمغرب واليمن والسودان.

تبدأ الرواية بمشهد ممطر في الفصل المُعنوَن "عملة ذهبية"، ثم يفاجئنا الكاتب بإظهار نفسه من وراء السرد ويسقط الحائط الرابع كما أشار د. حسام عقل إلى ذلك حيث يقول "الخضري": "أنا الراوي لهذه الحكاية وحكاء هذه الرواية، شاهدت القتل الأول، وسمعت وسوسة النفس، ركبت في السفينة يوم طغى الماء".

ولا يكاد القاريء يتم الفصل الأول القصير جدا حتى يقوم "الخضري" بهدم وزحزحة مجموعة من المعارف الثابتة فيقول عن المطر: "الأشياء الجميلة يمكنها أن تقتلك". وقبل أن ينتهي الفصل الأول الذي تعمد الكاتب أن يجعله مصباح الرواية الكبير، يلفت "الخضري" انتباه القاريء إلى حيرته في بحثه عن العملة الذهبية النادرة التي لا يتعامل بها بنو الإنسان، والتي أخبرتنا صفحات الرواية بأن هذه العملة هي الوفاء.

وفي السطرين الأخيرين من الفصل الأول يضع "الخضري" جمرة متوهجة بين يدي القاريء؛ليستعد نفسيا للصدمات المعرفية الكبيرة التي ستقابله خلال فصول الرواية فيقول: "قالت: احك لهم! قلت: آحكي كل شيء؟ قالت: لا معرفة بلا تجربة".

وبمجرد قراءة الصفحات الأولى من الفصل الثاني تتكشف الشخصيات أمام القاريء؛ فتظهر لنا الفتاة المسكينة "شيماء" التي غرر بها الشقي الوسيم "عزيز" وتخليه عنها بعد أن حملت سفاحا، ثم تظهر شخصية الأب المغلوب على أمره، وشخصية الأم المستهترة التي جلبت العار لنفسها وزوجها وابنتها، وتم طرد العائلة من القرية بسبب فضائحها مع الرجال.

عبر فصول الرواية تظهر شخصيات مستهترة مجرمة مثل "عزيز" و"مجدي"، وشخصيات طيبة مكافحة مثل "كارم الفار"، وشخصيات نورانية مثل "يعقوب" الذي تكفّل بتعليم وتربية بطل الرواية "فايز".

وبالنسبة للشخصيات النسائية نجد نفس التوازن البارع، فهناك شخصيات مستهترة وقحة مثل "جيهان" و"سميحة" و"سلوى"، وشخصيات نقية مثل "رضوى" و"منى" و"نورا"، وشخصيات تتحول من الانحطاط إلى الفضيلة مثل "شيماء".

وتتوالى الأحداث لتظهر الأنوار الربانية في تصرفات بشر أسوياء، كما يتجسد الشيطان بقوة ويجذب ضعفاء النفوس إلى مناطق حالكة الظلام، تبدأ بالسقوط في بئر الرذيلة وتنتهي بالاغتصاب والقتل، فعزيز يقتل صديقه من أجل شريط حبوب مخدرة، و"مجدي" يطلق النار على "فايز" ليلة عرسه ثم يغتصب زوجته "منى" في لحظة دنائة عجيبة، حيث يسقط "فايز" في تلك اللحظة في غواية "سميحة" الفاتنة.

الرواية التي تبدو كبحر متلاطم يغوص ببراعة في تحليل الشخصيات نفسيا، ويرصد التحولات الإنسانية من الشر إلى الخير ومن الخير إلى الشر، حيث تتلاقى الشخصيات البيضاء والسوداء والرمادية وجها لوجه طوال السرد البارع.

وكما وصف "د. عقل" لغة "الخضري" قائلا: "لا يكتب إلا نفسه، وينحت لغته الخاصة، ويسير على خطى الكبار كيحى حقي وصنع الله إبراهيم وآخرين. ويستفز القاريء لأبعد مدى وإن لم يفعل ذلك بقوة فهو يعتبر أنه قد فشل. أشرف الخضري لا يترفق بالقاريء، وعبارته خشنة كعبارة جمال حمدان".

وفي تعقيبها على مناقشة الرواية في ملتقى السرد العربي، أثنت الروائية الدكتورة زينب أبو سنة على موهبة "الخضري" اللافتة، وقدرته على سحر القاريء والاستحواذ عليه بقوة حتى ينتهي من قراءة العمل، وأشارت إلى أنه رغم جرأة لغته -التي تصعق القاريء أحيانا- فإنه لم يختلق هذه الشخصيات السلبية السيئة كجيهان وسميحة وعزيز ولمياء، بل هي في الواقع أكثر شرا وقبحا، لكن يحسب للخضري أنه وضع الشخصيات المضيئة طوال الوقت داخل الرواية أمام الشخصيات المتفسخة دون تزييف للوعي أو تجميل خادع أو التوغل فقط في طرح الشخصيات القبيحة كأنه لا يوجد في المجتمع سوى هذه النماذج السيئة مستخدما عنصر التضاد في إبراز الشيء عن طريق ضده، مثلما يظهر اللون الأبيض جليا على خلفية سوداء والعكس، وما قدمه الخضري من بعض الشخصيات التي يغلب على سلوكها الدونية الأخلاقية لم يكن من أجل مخاطبة الغرائز أو تقديم القبح الرخيص، إنما لإظهار جوانب من النورانية والجمال تظهر مع التحولات المفاجئة في حبكته السردية من حيث عودة الإنسان لفطرته الصحيحة ورفضه بل تمرده على لحظات أسره في قبضة الشيطان. 

الحديث عن رواية ا"لحيوان الأخرس" يحتاج لعشرات الصفحات، والرواية اجتذبت العديد من الأقلام الموهوبة التي كتبت عنها  بإعجاب كبير، كالروائي "شاكر المغربي" والروائي المغربي "عبدالسلام بزيد"، والشاعرة الجزائرية خديجة قادري" التي وصفت الخضري بأنه "يضاهي العمالقة في أسلوبهم خاصة نجيب محفوظ، ويتفرد بأسلوبه الخاص المتفرد".

كان "الخضري" ذكيا رغم قسوته، فقد أقام ميزان العدل والقصاص داخل الرواية، حتى ولو صدم القاريء وهو الأمر الذي عابه الناقد الكبير د. حسام عقل على الرواية واعتبر ذلك ميلودراما عربية قديمة، فعزيز يدفع حياته ثمنا لأنه قتل صديقه وأسقط "شيماء" في الخطيئة، و"مجدي" دهسته سيارة بعدما اغتصب "منى"، وكأن العقاب جزء أساسي من مُخيلة "الخضري" طبقا لقناعة شهيرة تقول: "لا أحد يفلت من العقاب".

ويفاجئنا "الخضري" في أخر سطور الرواية بتحولات كبيرة لبطله فيقول:

"الأيام منحت فايز الوقت الكافي للبكاء وإعادة إعمار الخرائب التي في قلبه، والسنوات التي عاشها مع العجز كانت أعظم سنوات عمره؛ لأنه عندما فقد حيوانه الأخرس، وجد الإنسان الكامل".

تعليقات