طريق الرجوع.. قصة قصيرة للدكتور محمد أبو الفتوح محمود غنيم

  • جداريات 2
  • الخميس 16 يوليو 2020, 1:54 مساءً
  • 1079
الدكتور محمد أبو الفتوح محمود غنيم

الدكتور محمد أبو الفتوح محمود غنيم

كان المساءُ رمادياً كعادته، وكانت شوارع القاهرة أشبه بمساراتٍ في مستعمرة للنمل. وكان الميدان، حيث لفظني سُلَّمُ المترو من جوف الأرض، مثل عجوز متصابية لم تفلح المساحيقُ في إخفاء تجاعيد وجهها الغائرةِ والبارزة. على البُعدِ، لا يزال المتحف المصري كعهده منتصب القامة مشرقاً، لكنه يتنفس بالكاد، وعلى الجهة الأخرى، يقف مواجهاً له مُجمَّع التحرير متقوِّساً مُنهَكاً من كثرة ما يملأ جوفه ويفرغه من مرتاديه كل يوم، بينما تزِّين الميدان متواريةً في ركنهِ البعيد الجامعة الأمريكية، تبدو مضيئةً خلف أسوارها المزدانة بأشجار مورقة خضراء، وتبدو البنايات العتيقة المُطلِّةُ على الميدان ساهمةً شاردة تعلوها لوحات إعلانية تتوهج ضوءًا وألواناً.

طالعتني وسط الميدان ساريةٌ شاهقة يعلوها علمٌ كبير تستحثه النسمات العابرة أن يتحرك، بدت لي ساحة الميدان كقصر عتيق هجره أهله، تعيث في جنباته الحشرات والجرزان والزواحف.

ببراعة سائق "فيراري" محترف، كنت أتفادى أسراب السيارات المهتاجة المارقة، ميمِّماً وجهي شطر مقهى وادي النيل في رحبة الميدان حيث موعدنا. تألفُ أقدامي هذه الطرقات، لكنها لا شكَ تجهلني ولا تذكر  أقدامي، يجوبها الآلافُ أمثالي يومياً فأي أقدامٍ ستذكر؟، وأي عابر سوف يترك أثره عليها دون أن يُمحى؟!. واجهات الحوانيت، أتذكرها، كما أتذكر وقفاتي الطويلة في انتظار "الباص"، وتصفحي المختلس لبعض الكتب، واستراقي النظر لعناوين الصحف عند بائع لا ينفكُّ يبصقُ علي نظراته المغلَّفة بالغيظ.

قلتُ: أتأمل الميدان والمارّة حتى يحين قدوم صديقي، ثلاثون دقيقة وقفت أنتظره، سنواتٌ عديدة مرَّت لم أرَ هذا الميدان، وسنواتٌ مثلها عديدة لم أرَ صديقي، كان يجمعنا سقفُ بيتٍ واحد، في شقة للإيجار المفروش، كان غضّاً فتيَّاً، أنيقاً في ملبسه، وفي حديثه، يمشي على الأرض كأنما ليس عليها سواه، كانت الحياة تفتح له ذراعيها، له معجباتٌ كثيرات يهاتفنه، يهدي ابتساماته من يعرف ومن لا يعرف، وحيثما يكون ترن صدى ضحكاته في أرجاء المكان، يومه حياته، لا يفكر في ماضٍ فيتأسى عليه، ولا مستقبل فيقلق له، هي اللحظة العابرة التي يترصدها فيقتنصها، فيستمتع بها ما شاء له التمتع، لكم كنت أغبطه على تفاؤله، الذي لا يحتاج إلى عكازين ليمشي عليهما، وعلى إقباله على الحياة، الذي لا تعكِّره أنواءٌ وأدواء، وعلى البسمة التي لا تبلى على شفتيه، تتجدد مثلما يتجدد إشراقُ الشمس كل صباح.

هكذا كان، علمت من صديق مشترك أن حاله قد تبدَّل من يُسرِ إلى عُسر، يمرُّ بحالة نفسية سيئة لضيق ذات اليد، فقد تقدَّم العمرُ، واعتَّلت الصحة، وازدادت ضغوط الحياة، جفت ينابيع الإبتسامات على شفتيه، وذوت ضحكاته، وانزوى في بيتٍ غزته التجاعيدُ متهالك، صار كالثور المُغمَى العينين، يدور في ساقية لا ينتهي دورانُها ولا ينفد  ماؤها ليسقي أرضاً لا يرتوي زرعها.

مرَّت سنواتٌ عليه، وهو يحيا يومه في مطاردة مثيرة للقمة العيش، ينبش عنها في شقوق الأرض وجوفها، ويفتِّش عنها في مغاراتٍ المدينة ودهاليزها. يخرج مبكراً إلى عمله الحكومي، ليعودَ بعد الظهر مُنهَكاً جائعاً، لا يمكث في بيته، ولا يداعب أطفاله الأربعة، إلّا ريثما يتناول غذاءَه ويغيّر ملابسه، ليخرج من جديد إلى عمله الليلي، الذي يعود منه متأخراً خائرَ القوى. لم يكن يسعد بالجلوس مساءً مع أولاده أمام التلفاز فتتشابك ضحكاته مع ضحكاتهم، ويتسامر معهم مثلما يفعل غيره. كانت الحياة قد أعطته ظهرها من زمن، أصابه السُّكَري، فولَّت الأناقة، وفي أثرها تبددت المعجبات، أدرك متأخراً أن الأيام لا تبتسم دائماً، وأن الأرض، التي يدُّب عليها بأقدامه، هناك ألوفٌ، بل وملايين غيره، يدبُّون أقدامهم عليها.

هاتفته لأطمأن عليه، قال: سوف يستأذن صاحب العمل ليقتطع بعضاً من وقته ليراني. لا زلت أحمل له ودَّاً قديماً له، وأشفقُ عليه مما آلَ إليه حالُه، كنت أودُّ رؤيته علَّني أستطيع مساعدته، فلكم وقف بجانبي وبجانب غيري من قبل.

توقفت بي قدماي عند عمود إنارة يرسم بقعةَ ضوءٍ شاحبةٍ، قلتُ: أنتظره، وأتأملُ المارَّة. تناهى إلى سمعي صوت "فايزة" منساباً من مذياعٍ صغيرٍ عتيق، فوق حقيبة كبيرة يجلس خلفها عجوزٌ مُسن، على كرسي صغير ذي قوائم معدنية، يبيع تماثيلَ فرعونيةَ الطابعِ صينية المنشأ، افترشها فوق ظهر الحقيبة. شدّني صوتها وهى تردد في إيقاع تعبيري اللحن:

"قدّ ما إرادتي قوية .. قدّ ما دموعي أبيّة..

نقطة الضعف اللي فيَّ هي قلبي .. وأنت قلبي"

رقيقٌ صوتها كلحظ شآمية ميساء، أسلمتُ نفسي للصوت الرائق والموسيقى العذبة، أخذتني حيث التاريخ، ذلك الذي لاينفكُّ يطاردني حيثما ولَّيتُ وجهي. فجأةً، صفعت أذني رنَّةُ الهاتف؛ ليخبرني في صوتٍ واهنٍ حزين أنه يتأسف لعدم استطاعته الحضور للقائي اليوم، فالعمل يحتاجه، ويُرجئُ اللقاءَ لوقتٍ لاحق.

تداعت علي الذكرياتُ متدفقةً مع إيقاع اللحن المتدفق، الهادر حيناً والمنساب أحياناً. أخذني صوت "فايزة" لهوة درامية سحيقة، وهي تردد في شجنٍ حالم:

"نقطة الضعف اللي فيَّ .. عذبتني

حمِّلتني فوق مايقدر حدّ يتحمل ضنى

وصّلتنى أعيش لك أنت

وأنسى حتى مين أنا .. مين أنا"

لتستمر في شجن متأجج كمن يتقافز فوق الجمر، لا يقوى على أن يبسط قدميه على ليهبها:

"بأعرف إني أروح .. وماعرفش الرجوع

بأعرف إني أروح .. وماعرفش الرجوع"

انتشلني من إنزلاق لا إرادي حاد في غياهب الذكريات، سؤالٌ لشابٍ في العشرينات من عمره:

من فضلك.. أين الطريق إلى قصر عابدين؟
قلتُ مشيراً بيدي نحو القصر: يقبع مضيئاً ساكناً في نهاية الطريق.
وقبل أن يفارقني متحفِّزاً للسير، سألته: هل أنت غريب؟
قال وهو يهمّ بالابتعاد : لا .. ولكني ضللت الطريق.

 

 

 

تعليقات