حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الكاتب سمير الفيل
كانت تجلس على العتبة ، وبجوارها دمًى كثيرة، مصنوعة من القماش ، وبقايا القطن. لكنها اختارت عروسا من بينها ، أوقفتها "ألفة " أمام مجموعة الدمى فشمل الجميعَ الصمتُ والوجل .
تحضرها أمها منذ طلوع الشمس إلي بيتنا ، تنقر بأصابعها الباب ثم تدفعها برقة من ظهرها. تسير بهدوء ، وفي أحضانها الدمى ، تصفُّها إلى جوارها ، تمدد جسمها على الكنبة ذات الغطاء الأخضر المنقوش ، وتنام.
تقوم أمي من نومها ، تحاول أن تعدل جسمها ، تغطيها بملاءة خفيفة، غير أنها تصحو ، فتبعد الغطاء ، وتتمسك بالدمية أكثر وأكثر حتى يظن من يراها أنها أمها التي أنجبتها.
العروس المحشوة بالقطن لها ضفيرتان سوداوتان، أما الطفلة اللطيفة النائمة على كنبة الصالة فلها " زعرورة " صغيرة معقودة بإحكام عند نهاية شعرها الملبد الكثيف.
حين نصحوا في الشتاء نذهب إلى مدارسنا ، وتظل ممددة تنظر إلينا بعبوس ، ولا تشاركنا شطائر الخبر بالجبن ولا أكواب الشاي بالحليب . هي أصغر منا بسنوات ، لم تبلغ السادسة من العمر .
حين أعود أجدها جالسة على العتبة ، وقد أخفت عروستها الأثيرة خلف ظهرها، ما إن تراني حتى تغني بصوتها المبحوح: "إبرة الخياطة.. وقعت على البلاطة".
أجلس إلى جوارها ، وأنظر إلى الدمى الصغيرة ، أتأمل وجوهها فإذا هي خطت بقلم" الكوبيا" الغليظ : شفاها ، آذانا، أنفا ، وعيونا. أخاف من تلك العيون الشكاكة ، التي لا تتحرك. كأنها سهام موجهة نحوي.
سألتها مرة عن أبيها: ذهب ليشتغل في " مكة " جنب النبي.
سألت أمي ، صمتت طويلا ثم نطقت هامسة : أبوها مسجون لأنه وقع " شيكات" بدون رصيد.
ـ أين تذهب أمها كل صباح ؟
ـ تأخذ طستها إلى السوق ، تبيع الفول النابت لتكسب ما فيه النصيب.
أحضر طبقا فيه أرز وقطعة لحم وقليل من الحساء. أضع بيدها ملعقة. تنظر ناحية المطبخ ثم تتناول ملعقتين ، وتهز رأسها شاكرة.
تسألها أمي: جعت يا صفاء ؟
ـ أبدا. محمد جعلني آكل من طبقه.
وعند العتبة ، استكمل معها الأغنية: " راحة فين يا توتو.. ألعب الكوتشينة ".
كان في بيتنا كوتشينة ، ودينامو ، وقطعة ورق فيها لعبة مؤذية ، هي " السلم والثعبان".
تمسك بالزهر ، ترميه ، فتصعد سلالم كبيرة وتسبقني في الوصول إلى المربع رقم مائة.
أمسك بزهري ، أرميه فأصعد على مراحل ثم أجدني في مربع يتحرك فيه ذنب الثعبان. فأهبط .
كرهت الثعابين ، منذ أسبوع بالضبط ، اندفع أبناء عائلة شحاتة لأن الثعبان صار يختفي في شق قديم بالحائط . حرقوا الشيح ، وطرقوا الأواني النحاسية فلم يخرج. هجروا البيت حتى جاء الرفاعي.
طلب من الجميع الصمت ، وراح يعزّم بصوت فيه ارتجاف خفيف، وابتهال ، أَقسم إنه لن يمسسه بضرر. جاء الثعبان يزحف ناحية الرجل. لم يدخل في الجراب الجلد مرة واحدة.
أظنه راح يجيل بصره هنا وهناك حتى رأى أم " الزعرورة " تجلس على عتبتها مأخوذة بالمشهد، فزحف ناحيتها . رأيت البنت تنفجر بالبكاء. توقف حائرا ، والرفاعي يتبعه ، ويأمره بالخضوع للقسم الذي بينهما.
لما تركت البنت الدمى كلها عاد للزحف ، وارتمى بجلده الأملس المموه على العروس الكبيرة. اعتصرها لثوانٍ ثم نام في حضنها لنصف ساعة. والرفاعي ينتظره ، لا يعبس في وجهه ، لا ينهره ، ولا يشتمه. فقط يذكره بالمواثيق الغليظة التي بينهما .
انكمشت البنت والتصقت بي دون كلمة واحدة. ولما دار الثعبان في البيت دورتين ، رجع لبيت شحاته ثم عاد يتبعه ثعبانان في غاية الصغر. دخل بكل هدوء إلى الجراب وتبعه الثعبانان الصغيران.
أبعدت البنت العروس الكبيرة بطرف جريدة ، زهدت فيها. راحت تتأمل الدمى الصغيرة المتشابهة، كانت هناك دمية بلا عينين. جذبتها لناحيتها ، وجلست تتأملها بفضول بعد أن انفض الناس.
سرت الطمأنينة في نفسها ،وابتسمت أخيرا ، وإلى جانبها جلست ومعي طبقي ، مليء بالأرز وقطع البطاطس المقلية في الزيت . مددت يدي بالملعقة. وجدتها تكمل ، ناسية أنها توقفت في هذه المنطقة الشائكة :" عسكر فوق.. وعسكر تحت.. يخرب بيت بتاع الكعك".
كان كعك العيد الذي صنعته أمي يوشك أن ينفد، دخلت تحت السرير ، زحفت حتى ارتطمت يدي بالصفيحة. أخرجت كعكتين محشوتين بالملبن. أكلت واحدة ، وهي أكلت واحدة. ولم يكن فوق الكعكتين سكر بودرة .
جاءت لنا أمي بكوبين من الشاي ، كان البخار يتصاعد من كوبي، تعجبت أن كوبها كان بلا دخان. كدت أجن مما رأيت . شربت من كوبها. قالت لي : وعيناها مخضلتان بالدموع : أبي لم يعد من سفره.
سمعتها أمي فقالت لنفسها وهي بالمطبخ: الدنيا من يومها فيها خلل كبير.
أحضرت العروس الكبيرة حاولت تقريبها من البنت ، أبعدتها بمنتهى القوة، ثم انخرطت في بكاء مرير.