هل رأيت حشرة سرعوف الورقة الميْتة؟
- الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
الدكتورة رشا غانم
في دراستها النقدية المهمة حول قصة سربرينيتسا للكاتب البوسني (إسنام تاليتش) صدرت 1998 م ، وصفت الدكتورة رشا غانم أستاذ النقد العربي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بأنها أبشع مذبحة تطهير ضد سكان المدينة خلال القرن العشرين .
وأضافت الدكتورة "غانم " إنه تمر اليوم الذكرى الخامسة والعشرين على
مذبحة سربرينيتسا ( 11-22 يوليو 1995) وما زال الجرح نازفًا؛ حيث تعد أبشع مذبحة تطهير
عرقي ضد سكان المدينة يتعرض لها المسلمون في القرن العشرين حيث اجتاحتها قوات صرب البوسنة
، وفصلت الرجال والأطفال عن عائلاتهم وقتلت منهم ما يزيد عن ثمانية آلاف شهيد. وثبت
بالفعل من لجنة رسمية تشكلت بأمر دولي، اشتراك قرابة 30 ألفا من صرب البوسنة في جرائم
التطهير العرقي .
"إن التطهير العرقي جريمة ضد الإنسانية،والذين
يقدمون على ارتكابه اليوم مجرمين يجب محاكمتهم أمام هيئات قضائية خاصة"".يترافق
التطهير العرقي عادة مع جهود مبذولة لإزالة الدلائل المادية والثقافية على وجود المجموعة
المستهدَفة، من خلال تدمير منازلها، ومراكزها الاجتماعية، ومزارعها، وبُناها التحتية،وهذا
ما حدث في مذبحة سربرينيتسا.( )
"سربرينيتسا هي بلدة صغيرة تقع في
شمال شرقي البوسنة،سمع العالم اسمها عقب المعاناة غير المسبوقة لآلاف من سكانها الأصليين
ولضحايا كثيرين أيضا"، كما ارتكبت الجريمة في المكان الذي كان الضحايا يحتمون
فيه تحت مظلة الأمم المتحدة التي يمكن القول إن قواتها دخلت البوسنة لحماية نفسها قبل
كل شيء !
وتوضع الدكتورة "غانم " أن الرواية سيرة ذاتية للكاتب البوسني إسنام تاليتش أحد الناجين من المذبحة ويروي أحداث قصة حقيقية فالرواية سيرة ذاتية له يجسدها على لسان بطل الرواية الرئيس (مرجان جوزو) حيث يحكي على أحداث المذبحة من خلاله و يعترف المؤلف بذاته أنها كُتبت كردة فعل واجبة وكاستجابة حتمية لرجل عاش بعمق المصير المروع لأهل بلدته،إنها ردة الفعل على غياب الإنسانية...فلم يتناول الجناة بانفعال وغضب بل تعرض وغاص عميقا إلى الأسباب الجذرية وراء ارتكابهم لأبشع الجرائم."
استقر المؤلف –الذي نزح عن بلدته أيضا-
بشكل مؤقت وظل هناك يكابد الشوق إلى موطنه الأصلي المسلوب وقد نشرت الرواية في أعقاب
الإعلان عن الجريمة العظمى ضد الأبرياء في سربرينيتسا وصدرت الطبعة الأولى في (بيهاتش)بعد
بضع سنوات في 1998م".( ).
وأولئك الذين نجوا من سعير (سربرينيتسا)كانوا
قد أرسلوا لى إسنام تاليتش وثائق مكتوبة أدلوا بها بشهاداتهم ورواياتهم ،وقدموا بياناتهم،
وألزموه بالتعهد بتسجيل كل شىء".( ).
"ففي جحيم سربرينيتسا ينكشف كل شىء
من خلال ذاكرة البطل مرجان جوزو يظهر كل ما حدث من خلال اسمه،وإيمانه،وفي الحالات المختلفة
لجسده المعذب.".( ).
وكان وقود المعركة الإعلام الفاسد وثقافة
التجهيل التي كان يبثها عبر شاشاته أثناء المذبحة يسردها المؤلف بقوله:"كلما وقعت
عيني مصادفة على محطة التليفزيون الصربي لأتطهَّر من النجاسات التي كان يعرضها ما تسمية
تليفزيونهم...كانوا يقدمون أقبح الأكاذيب وأكثرها بشاعة حول كل ما يتعلق بالبوسنة وخصوصا
سربرينيتسا تلك الأراجيف الشنيعة التي عرضت كما لو كانت حقائق جلية لا تقبل الجدال،قاموا
بتشويه الحقيقة لتظهر تلك الأباطيل كما لو كانت واقعا حقيقيا ناصع الوضوح"( )
تجلى تيار الوعي في الرواية على الارتكاز
الأكبر على الضمير الأول "أنا" حيث لديه القدرة الفائقة على أن يغوص داخل
النفس، ويكشف عن خفاياها ويسبر أغوارها،كـ:"ركضت نحو عمتي العجوز زيرينا كانت
تخرج من بيتها البرجوازي الذي أشك في أنها ذاقت طعم النوم في ليلتها التي قضتها بداخله،بل
أنني أتصور حتى أن يكون قد غمض لها جفن في تلك الليلة،كنت أعتقد أن بيتها عتيق قد انهار
منذ زمن لكن كارثة اللاجئين أعادت الحياة إلى كثير من البيوت المهجورة ...قالت لي وهي
تشير برأسها نحو السكان الذي أتت بهم الحرب إلى بيتها "أنا شاكرة وممتنة لأنهم
أخذوني إلى داخله"( )
وتتابع : وينثال السرد على مائدة الحكي
بطريقة تقوم على التداعى الحر للمعانى فى ذهن الشخصية الرئيسية أو الراوي الرئيس وهو
الكاتب الذي يسرد لنا سردا متواليا لأحداث كثيرة ينتقل منها من الداخل إلى الخارج فمن
الزوايا الضيقة التي تحيطه فنجد الذاكرة الخاصة ببطل الرواية مرجان جوزو وكذلك على
استحضار تاريخ الجد رحمن بك جوزو من خلال قراءة دفتر يوميات الحرب الخاص به ومذكراته
الشخصية. ..ويكشف القدر الذي يجمع بين حياة كل منهما.." ( )
حيث تتداخل وتتشابك رواية سربرينيتسا والمروية
على لسان بطل الرواية (مرجان جوزو) مع قصة البطل الجد(رحمن بك جوزو ومغامراته من الحرب
العالمية الأولى وهكذا تخطت سربرينيتسا المعنى الحرفي لعنوانها لتصبح رواية مشرقة وواضحة
لتاريخ البوسنة والبوسنيين جميعا." .( ).
أراد ناليتش مثله مثل كثير من البوسنيين
مهتم بقضية التطهير العرقي يحذر من تكرارها وكأنه خرج للتو من بين المقابر الطرية الطازجة
محذرا ومنذرا فالرواية أقرب أو أشبه ما تكون بقصيدة رثاء وتأبين للإنسانية التي قتلها
الحرب يدين بها الكاتب الحرب وأهوالها ومصائبها بأسلوب تحكمي! .( ).
وعندما نقف عند عقد الرواية والحبكة الدرامية
التي أودت بنا لأحداث مشينة كوصمة عار على جبين العالم يوضح لنا المؤلف منبع الحقد
والكراهية الذي رضعته الجدات الصربيات في حليب كل صربي ضد أخيه المسلم بوصفه خانه ودخل
ديانة جديدة كان أحرى به أن يظل في ديانته "في ذلك الوقت حين كانت المؤامرة تختمر
في الخفاء..وتدير المكائد والخطط،وبينما كان البوسنيون –كعادتهم- لا يمكنهم أن يتخيلوا
ما كان ينتظرهم ،كانت كل جدة صربية تعرف ما هي مهمتها بالضبط تماما كما فعلا المعلمة
الطيبة (دانيتسا)..." ( ).
ونستكشف أغوار الحكاية في مجموعة
"القيم التي كان يراها جيل الآباء الذين عاصروا الحرب؛تتمثل في أن جزءا من البوسنيين
أُطلق عليهم اسم البوشناق باللهجة المحلية –فقد خانوا المسيجية عندما اعتنقوا الإسلام
الذي انتشر في البوسنة كما لم ينتشر في المناطق المجاورة،وأصبح دين الغالبية بعد حوالي
مائة وخمسين سنة من الحكم العثماني(1463م-1878م) وجاء موقع البوسنة المسلمة بين صربيا
الأرثوذكسية وكرواتيا الكاثوليكية ليجعل منها حدا فاصلا بين الشرق والغرب بالمفهوم
المسيحي الثقافي..." ( )
وتداعيات الموت لم تكن في المذبحة فقط بل
الجوع أيضا كان ينهشهم كوحش مفترس يبحث عن فريسته وما أقسى أن تكون الفريسة هي أقرب
الأقربين لك ومن وضعت فيهم ثقتك! "كنا نعثر على جثث الموتى الذين لم يلقوا حتفهم
برصاص القناصين ولا بقذائف القصف الجوي كانت علامات العراك والمقاومة تبرز بوضوح على
أجسامهم لا بد أن الجناة المجرمين كانوا من أصدقاء الموتى الحميميين أو من أقاربهم
المقربين ،فلو لم يكونوا كذلك لما وافق الضحايا على قضاء الليلة برفقتهم وربما أنهم
في لحظة من لحظات الضعف الإنساني قد ائتمنوهم على المكان السري الذين خبأوا فيه لقيمات
الطعام الصغيرة جدا! )
"مجزرة سربرينتسا تمثل فشل المجتمع
العالمي ؛لأن الضحايا قد وضعوا ثقتهم في الحماية العالمية ولكن المجتمع العالمي خيب
أملهم فهذا فشل كبير جماعي يستحى منه""( )
"والأطفال والنساء والعجائز كم منهم
كان من الممكن ألا يقتلوا لو لم ننسحب من سربرينيتسا التي استولى عليها التشيتيك بمساعدة
الأمم المتحدة التي خدعتنا بالوعد بإرسال طائرات الناتو القاذفة للقنابل إن نحن تراجعوا
للوراء أكثر وتقهقرنا إلى البلدة؛ولهذا بدأنا مسيرة الثمانين كيلو مترا فوق التلال
وأسفل جداول البوسنة المحتلة مضحين بأنفسنا من أجل سلامتهم!" )
وألف السكان كل أدوات الموت التي حاكها
الصرب لهم فليس هناك شخص واحد في سربرينتسا لا يعرف منظر آثار الرصاص على الملابس فقد
كانت طلقات الرصاص أقرب إلينا من القمصان التي على ظهورنا كانت تلك القمصان أدق خيط
في العالم يفصلنا عن الموت""( )
سربرينتسا اليوم أكثر شبها بقبر مفتوح إنها
تشبه بقوة شكل القبر المفتوح بل إنها لا تشبه أي سيف أكثر من لحد كبير يفتح ذراعيه.."
)
حيث "صار الموت حدثا مألوفا جدا في
سربرينتسا...كما لو كان عادة شائعة التقطها المرء من بيته بشكل طبيعي جدا"( )
من المهم ملاحظة أن سكان البوسنة هم أوروبيون
وسكان أصليون للبلاد من السلاف الجنوبيين وليسوا أتراك بل هم من نفس الأصول الذي الذي
انحدر منها الصرب إلا أن الصرب خضعوا لنفوذ الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا بينما ظل
سكان البوسنة في عقيدتهم البوغوميلية"( )
لأنه؛" من يدخل في العقد النفسية الموروثة
لدى الصرب يجد في ثناياها أن هؤلاء القوم حكمهم الأتراك لخمسة قرون متتالية ولطول هذه
المدة امتزج الأتراك بالصرب وتزوج الكثير منهم من نسائهم مما جعلهم يعتقدون أنهم فقدوا
نقاءهم العرقي بسبب دخول الأتراك العثمانيين كما يتهم الصرب البوسنيبن المسلمين بأنهم
خانوا الصرب عندما دخلوا في الإسلام دين الأتراك المحتلين"( )
وكانت النتيجة وحشية ويسترسل الكاتب ساخرا:"
أتساءل ما الذي يجعل جنديا شابا في ريعان شبابه يتطوع بمحض إرادته في قوات الميليشيات
الصربية المتطرفة؛ ليغزو بلادا ويقتل أبرياء وينشر الكدر على مرمى البصر؟...ما الذي
أصاب نفسية هذا الشاب بكل هذا التشوه؟ إن من يقدم على إرتكاب أعمال بهذا المستوى من
الوحشية لا بد وأن يكون مصابا بعاهة نفسية بالغة جدا ما الذي جعل هذا الصبي يفعل هذا
ومما الذي يجعل والديه يباركان خطاه؟إنها العقد النفسية الموروثة جيلا بعد جيل إنه
العنف الذي يتم تلقينه في البيت والمدرسة والشارع العنف الذي استمد شرعيته من العنف
الأكبر الذي مارسته الدولة ومن استعداد النظام العالمي في ذلك الوقت لتقبله"(
)
"وقد نجح تاليتش في توظيف الشخصيات
النسائية توظيفا موفقا وبشكل استطاع أن يحول مشاعر المرأة إلى معان إنسانية مؤثرة
..حيث أضفت تنزيلا حبيبة الحفيد ومرجانة حبيبة الجد النكهة الرومانسية على الرواية
التاريخية وهكذا أدخل تاليتش إلى النص جرعات كبيرة من الحميمية والشاعرية مازجا بين
نعومة الرومانسية وصلابة التاريخ"( )
وتعرض الرواية للأرملة التي مات عنها زوجها
وهي عمته زيرينا وزوجها مهيو ، وما تلتزم به من عادات وتقاليد أهل البوسنة يقول"
لكن ليس من التقاليد البوسنية أن تبكي على من فارق الحياة. وإذا كنت قد استطعت بحكم
التقاليد والعادات أن تعتكفي طوال الليل تحت أقدام زوجك الميت إلى أن تستمر إخراج جثته
من البيت فبإمكانك أيضا أن تتجلدي وأن الزميل نفسك بالكف عن البكاء لا تتخلي عن التقاليد
ولا تتجاهلي العرف واحمدي الله لقد كنت في الجحيم والله تعالى سلمك وحفظك"( )
"مات عمك مهيو –رحمه الله وأسكن روحه
الجنة- وقد أمضيت الليل بطوله وأنا منتصبة واقفة على قدمي كما هي العادة في بلادنا
حيث لا تجلس الزوجة قبل أن يدفن زوجها ...قضيت الليل بأكمله واقفة تحت قدميه بعد أن
فارق الحياة." ( )
وبعد أن مات زوجها لم يتبق لها إلا ابن
أخيها مرجان" ٱه يا عزيزي مرجان أنت وأنا فقط هو كل ما تبقى من عائلة جوزو في
هذا العالم""( )
"يكشف إسنام تاليتش عن أهمية المرأة
وموقع الشخصية النسائية في القصة التي يرويها من خلال شخصية مرجانة وأختها مونتسكيرا
وزيرينا".( )
لكن عندما يأتي حديث الحب عن محبوبته"
تنزيلا مهوردار "نجده جديثا ممزوجا بآهات الحرب ومنغصاتها وهو يصارع الموت من
أجل البقاء ويتذكر الموت الذي يجثم على صدره حتى أنه تخيله يلتف حول خاتم الزواج حول
إصبعه وكأن رائحة الموت لم تترك مكانا إلا وأحاطت به في سربرينينتسا يقول "هل
من المحتمل أن يكون الموت قد التف حول إصبعي ؟هل منكن أن يلف الموت نفسه ويتسلل ليقبع
كحلقة تحت خاتم الزواج بالضبط...استطاع أن يختبئ عني فقط تحت خاتم الفتاة(تنزيلا مهور
دار) حبه الأول التي لم أتزوجها يوما الفتاة التي قضيت عمري أحلم بالزواج بها".(
).
وتختم الدكتورة "غانم "
قائلة : إن الرواية ناقشت واقعا مستلبًا مقهورًا بالرغم من محاولات البوسنيين المستميتة
لصد عنفوان الظلم والإيثار لفئة دون أخرى لكن كانت الفظائع التي ارتُكبت في المذبحة
في تسعينيات القرن الماضي تعد من جرائم الحرب،والإبادة الجماعية ضد الإنسانية وليس
سربرينيتسا فقط..