حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
عاطف محمد عبد المجيد
ربما يظن البعض أن الرواية فنًّا إبداعيًّا سهل المِراس، وأن من يمتلك القدرة على الحكي يمكن له، وبكل سهولة، أن يكتب رواية، والحقيقة أن كتابة الرواية الجيدة تحتاج إلى روائي يمتلك ناصية لغته، ويجيد خلْق عالمه الروائي الخاص به، متمكنًا من أدواته ومطوّعًا موهبته الروائية فيما يكتب، وهذا ما فعله أحمد حسن إبراهيم في روايته ” أنا وذكرياتي “ الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، وفي مشهدها الأول تتحدث مريم، التي تستعيد طوال الوقت ذكريات فشلها في مشوارها الحياتي، عن صندوق خشبي أوصى به جدها لها، وتعرف فيما بعد أنه يحتوي على عقد تمليك بناية لها، وكلما حاولت أن تفتحه ترددت وخافت كأن شرور العالم جميعها ستخرج منه، متذكرةً قول أمها لها: " لا توجد مرة نفتح فيها هذا الصندوق اللعين إلا وتحل بنا كارثة ".
مريم التي تعيش حالة من الشتات النفسي تصف حالتها وما يمر بها فتقول: ” كنت أظن حتى تلك اللحظة أن ما يجري في بيتنا هو نموذج للعلاقات الطبيعية بين الناس وبعضهم البعض، علاقات جافة، باردة، تعتمد فقط على المصالح وتبادل المنفعة “.
ثم
تصف وجودها في مدرسة داخلية، أدخلتها أمها إياها حفاظًا عليها من الوحوش، وتقصد
الرجال، فتقول: " في القسم الداخلي تَساوى عندي كل شيء وأصبح مجردًا، العلاقات، المشاعر،
الاهتمامات ".
مريم تروي مأساتها مع الحياة، ومع الواقع الذي يحيط بها: ” لم أعرف ما هو الدفء، دفء العلاقات، دفء المشاعر، دفء الطقس، دائمًا برودة، دائمًا أرتجف “.
هذه الحياة التي تعيشها جعلتها تستهوي لعبة أن تكون ضحية، ضحية تقنع الآخرين بأنهم جلادوها، وترتاح لنظرات الشفقة في عيون الآخرين، لقد أحبت خضوعها وذلها واستسلامها، أحبت اللعبة وأدمنتها، بل أصبح كل همها إرضاء الآخرين حتى تأمنهم، وزاد الأمر وطورت لعبتها حتى باتت تستغل مشاعر الآخرين، ضاغطة عليهم باستسلامها وخنوعها، مستنزفةً أحاسيسهم بذلِّها وانكسارها، لقد حاولت أن يشعروا دائمًا بأنها مقهورة، مستجديةً مشاعرهم ومثيرةً شفقتهم بالقدْر الذي يثير إحساسهم بالذنب تجاهها.
لقد فرضت عليهم سيطرتها من خلال نعومة قهرها، وهي تعيش حياة متأزمة يقهرها فيها الآخرون بحرمانها من أن تمارس طقوس حياتها مثلما يحلو لها، وتقهرهم هي بلعبتها التي تمارسها ضدهم.
لقد وصل الحال بمريم التي استخدمت كل الوسائل للإيقاع بالآخرين حتى تنال منهم ما تريد، إلى أن تقول:
” أنا عاهرة.لا أخجل من هذا، فالعهر سر وجودي، أبيع جسدي لمن يدفع الثمن وأرضى عنه.يقولون عنها أقدم مهنة في التاريخ، أتمنى لو أعرف من هو هذا الأحمق، الذي أجهد عقله وأعْمل فكره ليخرج لنا تلك المقولة السخيفة.لا أدري لماذا يحتقر الناس مهنتي؟ يتنكرون لي في العلن، ويلقون بأجسادهم في أحضاني سرًّا.الجميع يمارس العهر، أنا أمارسه بجسدي وأقبض الثمن، وهناك من يمارسونه بعقولهم أو بقلوبهم ويقبضون أيضًا الثمن..فما الفرق بيننا؟ "
أنا وذكرياتي، كما نقرأ
على غلافها الأخير، رواية ذات عمق خاص، ودعوة أكثر خصوصية لأن نبحر في سطورها
وأحداثها، محاولين الوصول إلى ذلك العمق، ليس من باب الاستمتاع بالرواية، كعمل فني،
وإنما لنتأكد أيضًا من أن الذات البشرية تستحق ذلك العمق الذي يتسم بتكوّنه من
متضادات لا محدودة. وهنا يجيد أحمد حسن إبراهيم التعامل مع لغته السردية التي
تتناسب والحالة النفسية والشعورية لشخصياته، مصورًا حالتها من الداخل، كما من
الخارج، متوغلًا في أعماقها الإنسانية، معبرًا عما يحدث في داخلها من مشاعر
وأحاسيس متناقضة، وما يدور فيها من صراعات نفسية، وحروب داخلية مع الواقع الخارجي.
شاعر ومترجم