حول رواية "عرين الجسد".. أندلس رشدى تكتب: نهاية لم تكتمل بعد

  • أحمد عبد الله
  • الإثنين 06 يوليو 2020, 4:20 مساءً
  • 725
الكاتب رجب أبو سرية - والأستاذة أندلس رشدي

الكاتب رجب أبو سرية - والأستاذة أندلس رشدي

أندلس رشدي حسن

رواية  **عرين الجسد**

 للكاتب الأستاذ رجب أبو سرية


بادئ ذي بدء فإنني أود أن أنوه أن الكاتب قد استخدم في تلك الرواية بعض الألفاظ والعبارات الخارجة عن تقاليدنا العربية وعن أيديولوجياتنا  الفكرية ،والمجافية تماما للعقلية العربية  ،ولقد أسرف في ذلك إسرافا شديدا ،فكان ذلك بمثابة سكين حاد أصاب تلك الرواية في مقتل.

  يُطل علينا الكاتب من خلال الصفحات الأولى للرواية بعبارة لها من السطوع والوضوح ،ما يكفي لأن ندرك إدراكا تاما أنَّ دوره في تلك الرواية ، إنما ينحصر فقط في كونه مجرد راوٍ أو سارد، يخلق لنا خيالا عما فعلته بطلة النص في الواقع.

ثم يقرر الكاتب في جملة موجزة ،أنه حينما يجتمع ثالوث الفقر والجهل والتخلف ،يضيع الحب وتبدأ المعاناة ، فتلك إذن هي القضية الرئيسية  التي بُنِيَ على أساسها السرد الحكائي في تلك الرواية.

 الفصل الأول في الرواية معنون بكلمة *القدس*ذلك العنوان الدال على تلك المدينة العريقة، التي تثير في نفوسنا مشاعرًا شتى، يتجلَّى فيها بوضوح كل معنى للأصالة ،والقداسة ،والعراقة، نعم إنها القدس التي تشكل بداخلنا حالات مغزولة بالحنين، والفخر، والروحانيات الرقراقة ،التي ما تلبث أن  تشرق على قلوبنا فتتنزل عليها السكينة .

وأما الحنين فهو لزيارة القدس بأزقتها وحواريها وشوارعها العتيقة،وأما الفخرفهو تجاه تلك الفتوحات العربية والإسلامية المؤزرة على أرض القدس الحبيبة ،وأما الروحانيات فهى تلك التي تشرق على قلوبنا فتجعلنا نهفو لزيارة  قبة الصخرة، وإلى  الصلاة في ساحات الأقصى.

ومن القدس تبدأ حكاية *نشوى* ،تلك الفتاة  النرجسية التي تتمتع بجمال أخاذ وبحسن ظاهرملموس ،والتي يكمن في أعماقها عشق لانهائي لذاتها ولجمالها ،فيالها من سعادة تغشاها ،عندما يتنامى إلى سمعها عبارات الإطراء التي تنهال عليها من  قبل هؤلاء الشباب الذين يسكنون بلدتها القديمة، وياله من مرح ينتابها ،عندما تتلقى براحتيها رسائلهم المغزولة بعبارات العشق والغزل .

ولقد عبر الكاتب عن تلك الحالة، بعبارة ملائمة  لها تماما  إذ يقول " إن سلام روحها مرهون بذلك الورق الملون الذي كان  يتنائر حولها من قبل شباب البلدة"

 حقا إنها صبية تتميز بالعفوية التي تصل إلى حد الجنون في أغلب الأحيان ، فهي تأخذ الأمور على عِلَّاتِها، ولا تحاول أن ترهق تفكيرها في حل أية مشكلة من المشكلات ،أو أن تضيع وقتها  في فلسفة أي  أمر من الأمور، بالإضافة إلى كونها لا ترغب في إتمام دراستها على الإطلاق ،ولا تتوق إلى  الحصول على أية درجة علمية من أي نوع ، وإنما كل ما يهمها هو الأخذ بأسباب الحياة ،وزخرفها ،وزينتها دون التقيد بتلك العادات والتقاليد العربية ، التي تربت عليها ونشأت بين ربوعها.

وهاهي الأحداث  تزف لنا في بداياتها، بشرى سارة تلك التي تحمل لنا بين طياتها ،نبأ خطبة نشوى ذات الثمانية عشر ربيعا ،إلى ذلك المليونير المهاجر سمير ،ذلك الرجل الذي يكبرها بخمسة عشرعاما، ولكنه يملك  من المال الشيء الكثير، وهي تلك الفتاة الفقيرة التي لا تملك من دنياها سوى جمالها، ذلك  الجمال الذي لمحت  آثاره بوضوح على وجه عريسها المليونير عندما تقدم لخطبتها.

تتوالى الأحداث ،وتتم عملية التجهيز لحفل الزفاف  بسرعة ، وهنا وعندما يكون مسرح الأحداث هو أسواق القدس القديمة ، نستطيع أن نتابع نشوى ووالدتها وعريسها ،وهم يتسوقون في شوارع  تلك البلدة، فما تلبث نشوى أن تنتقي قلادة مصنوعة من الفضة منقوش عليها صورة العذراء مريم، وهي تحمل وليدها الصغير، تريد أن تعلقها على جيدها، وكأن لسان حالها يقول للسيدة العذراء.....

"سآتي معك إلى المحراب يا مريم...تحرسنا عيون الله تحمينا...فلا لوم علينا ولا تثريب من أحدٍ ...فكل من الباب جاءوا مستغفرينا".

وربما كانت نشوى في تلك اللحظة مفتونة بمعنى الاصطفاء ،ذلك المعنى الذي بمقتضاه ميز به الله  السيدة مريم على سائر نساء العالمين  ، وربما أيضا  كانت نشوى تظن أنها هي تلك الفتاة المصطفاة ،التي ميزها الله  بالجمال على سائر نساء العالمين .

تتوالى  الأحداث ،ويتضح لنا من خلال السرد ،أن نشوى ماهي إلا فتاة متمردة على ذاتها ،وعلى كل الأشياء من  حولها ، فهي نفسها تلك الفتاة التي تحمل مشاعرًا متناقضة حيال هؤلاء الشيوخ الذين يطلقون اللِّحى ،ويحملون المسابح الطويلة ،ولكنهم حينما يرون جنديا إسرائيليا ، يظهرون له فروض الطاعة والولاء ،وكأن لسان حالها يقول :

" مالي ومال هؤلاء الشيوخ الذين يصطنعون الولاء حتى لأعدائهم".

هي أيضا تلك الفتاة شديدة التحرر،والتي لا تجد غضاضة أبدا في إقامة علاقة عاطفية مع الشاب *جليل* دون وجود أي ارتباط رسمي بينهما وكأن لسان حالها يقول:

"إن الزواج هو مجرد إيجاب وقبول ، وما عقد الزواج إلا صك للعبودية ،يستطيع به الرجل أن يسيطر على المرأة وأن يجعلها أسيرة  له".

هي تلك الفتاة التي لا تعلم شيئا عن السياسة ، ولا تعي أي شيء  مما يدور في  كواليسها، ولكنها تصاب بالدهشة ،حينما تشاهد صور ياسرعرفات وهو يصافح رابين وكلينتون في حديقة البيت الأبيض ،تلك الصور  التي كانت تمتلئ بها شوارع وميادين القدس القديمة  في تلك الحقبة التاريخية الهامة في تاريخ العرب ،وكأن لسان حالها يقول:

"إنَّ السياسىة مجرد لعبة ، لايتقنها سوى القادة والزعماء والساسة ، فمالي أنا ومال السياسة"

ثم بعد ذلك تنقلنا الرواية عبر محطات كثيرة، فتتراءى لنا فيها  أحداث  متتابعة ،فهاهي نشوى تتزوج وتترك  القدس وتسافر إلى كندا  مع زوجها سمير ، ويالها من حياة مليئة بالسفر والترحال ،فها هما يسافران من بلد إلى بلد ،ويرتحلان من منتجع إلى آخر، ويقيمان في أفخر الفنادق، فمن باريس إلى تورنتو، إلى مونتريال ،وإلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي لقطة فريدة من نوعها ، يصف لنا الكاتب نشوى  وهي تقف قبالة تمثال الحرية ،فتظل تلف وتدور  وتتاقفز حوله  في الميدان ،وكأنها تقارن نفسها بتلك المرأة التي يجسدها  ذلك التمثال ،والتي تحمل  بيدها اليمنى شعلة الحرية، فتحاول أن تحاكيها ،فتبتاع زيا عربيا مزركشا، وترتديه وتمسك بيدها شعلة ،ثم تلتقط  لنفسها الصور.

 وكأن لسان حالها يقول:

"ها أنا ذا...ها أنا تلك المرأة التي يجسدها تمثال الحرية ولكنني أنا النسخة العربية، التي تحمل الهوية الفلسطينية"

 ثم بعد ذلك تتصاعد الأحداث دراميا، وتمضي عشر سنوات على زواج نشوى من سمير، تنجب خلالها بنتين وهنا يوضح لنا السارد أن حياتها كانت مليئة بالشقاء النفسي والتمرد على حالها ، فهي لم تكن لتدري على وجه التحديد أهي إمرأة عربية تحمل سمات المرأة العربية بكل ما تتصف به من المحافظة على  التقاليد العربية الأصيلة ،أم أنها  إمرأة أوربية تحمل الجنسية الكندية ،وتنتمي إلى هؤلاء الليبراليين الذين ينادون بالحرية في كل شيء حتى في العقيدة والدين.

لم تجد نشوى أمامها من وسيلة للتحرر الكامل  ،سوى  طلب الطلاق ،فهو من وجهة نظرها الوجه الآخر للحرية ،ويالها من إمرأة تعاني من اغتراب النفس، وتشعر بالاستلاب والضياع ،وكأنها فاقدة الإحساس بهويتها  وجذورها العربية ،وإنما هي مثال لتلك الإنسانة التي تخرج من ذاتها ،وتفقد السيطرة عليها حتى تصبح مجرد أسيرة  لرغباتها وأهوائها التي تنحرف بها كل  الانحراف ،وتميل بها كل الميل عن الصواب والاعتدال.

وهكذا تتوالى الأحداث ،وتحصل نشوى على الطلاق، ثم تعود إلى رام الله ،حيث تنتهج لنفسها حياة جديدة بعيدة كل البعد عن كونها إمراة عربية ،تحتم عليها أصولها العربية المحافظة على عاداتها وتقاليدها الأصيلة ،فها هي  تكون صداقات كثيرة ،ولكنها لا تجد أي غضاضة في أن تقيم علاقات غير شرعية مع بعض أصدقائها  الذين تقابلهم بطريق الصدفة ، ويالها من إمرأة  حمقاء تلك التي تضرب بكل التقاليد عرض الحائط ،فهي تشعر وكأنها تحيا في هذا العالم بمفردها بلا رقيب أو حسيب ،فهي ما تزال تنعم بحريتها الزائفة بلا أي قيد أو شرط.

تمضي الأيام بتلك المرأة التي قاربت الأربعين،ولكنها ما تزال تشعر بالغربة والاغتراب عن الأهل والوطن ، بل عن ذاتها أيضا ،حتى أوقعها القدر في أحد الأشخاص ،ذلك الذي نظَّم  لها رحلة  السفر إلى مصر التي  سمعت عنها وعشقتها عن بعد  ، ولكنها لم تكن لترغب  أبدا في  زيارة آثارها، أوأهرامها الخالدة  ،ولكنها فقط تريد الذهاب إلى مدينتي الغردقة وشرم الشيخ،وربما كان ذلك راجعا إلى هوى في نفسها يتمثل في محاولاتها  الحصول على أقصى متعة متاحة في  هاتين البلدتين ،وكأن لسان حالها يقول:

"ليس لدي وقت أهدره في زيارة  آثار مصر وأهرامها ،فإن متعتي تكمن في الانطلاق بلا حدود في أجواء ساحرية خلابة"

وتأتي النهاية الصادمة في الرواية،حينما تكتشف نشوى أنها تحمل في أحشائها  جنينا غير شرعي ولذلك فهي بكل بساطة تقررالعودة إلى كندا ، لكي تلد ولكي تربي وليدها هناك .

الرواية في مجملها تتميز بلغة سردية سهلة وبسيطة ،وخالية من التعقيدات اللغوية ،ولقد أتى السرد في معظمة باللهجة الفلسطينية التي تحمل لنا عبق القدس ورام الله.

وتجدر الإشارة  هنا إلى أنَّ الكاتب قد تناول موضوعا شديد الجرأة، وشديد الغرابة على مجتمعاتنا العربية ،ولا سيما عندما تحدث عن خبايا تلك الشخصية المحورية في الرواية ،والتي أطلق عليها اسم نشوى ذلك الاسم الذي يحمل بين طياته معنى الانتشاء ،والذي  جاء مطابقا تماما لشخصية تلك المرأة  التي لا تعرف أي شيء في الحياة سوى تحقيق متعة زائفة بلا حدود ، حتى ولو كانت تلك المتعة  ضد الأصول والأيديولوجيات العربية المتعارف عليها.

ومن نافلة القول فإنه  يجدر الإشارة  هنا ،إلى أن النهاية الحقيقية لتلك الرواية لم تتحقق بعد ،فمهما كانت درجة  الإغراق في الاغتراب عن الذات ،ومهما كانت درجة  التماهي في الحرية ،فلابد أن تأتي تلك اللحظة الحاسمة التي سوف يتحطم فيها تمثال الحرية الزائف.  

تعليقات