حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
د. زينب أبو سنة
لم تشهدْ حياةُ قاصٍ حوادثَ قاسيةٍ ومآسيَ كثيرةٍ مؤلمةٍ كما حدثَ للقامةِ الأدبيةِ (هوراسيو كيروغا) رائدِ القصةِ القصيرةِ في أمريكا اللاتينية (1878 - 1937)
وبعيدًا عن النقاشِ حولَ هويتِهُ،
أرجنتينيًا كان أو أوروغوانياً، فلحظةُ تأسِيسِه لقصةٍ رائدةٍ معجونةٍ بدمِها
(الأمريكو-لاتيني) الفواحُ، أمرٌ أكيدٌ لا يمكن أن يختلفَ عليه اثنان.
رفضَ (كيروغا) حياةَ المدنِ وعيشةَ
الترفِ و البذخِ، وكانت السمةُ العميقةُ لعقيدتِه بأن يديرَ وجهَهُ عن كلِ ترفِ
الطبقةِ الرفيعةِ، موجهًا إياه شطرَ جنونِه إلى مفازاتِ الأفقِ المتوغلِ لتناقضاتِ
ذاتِه الشرسةِ وطباعِ شخصِه الحاد.
وقصةُ (وسادة ريش)، تعتبرُ صورةً
مبتكرةً لأسلوبِ كتابةِ (كيروغا) المائزِ بالنقاءِ اللغويِّ والتركيبِ الإيحائيِّ
المدهشِ التي تقدمُها جملتُه المكثفةُ
.
تسردُ قصةُ (وسادة ريش)، حكايةَ
(أليسيا) تلك الفتاةُ الشقراءُ، الملائكيةُ، الخجولةُ التي كبحَ طبعُ ومظهرُ
زوجِهاالصارمِ أحلامَها الطفوليةِ كعروسٍ بعد عَقدِ قِرانُها عليه، بانصرافِه
الدائمِ لأعمالِه الخارجيةِ.
كان ينتمي زوجُها إلى طبقةٍ نبيلةٍ،
وكانت (أليسيا) تحبه كثيرًا ،ويكنُ لها هو أيضًا محبةً عميقةً، ولكن دون أن يظُهر
ذلك. شهدت (أليسيا) مع (خوردان)
حياةً شبهِ سعيدةٍ في بيتٍ باذخٍ،
ببياضِ فنائِه الصامتِ، وأفاريزه وأعمدته وتماثيله الرخامية، الذي لا يخلو بناؤه
الغريبُ من رعبٍ، لكثرةِ ممراتِه ودهاليزِه وغرفِه التي كانت تثير في نفسها
انطباعا خريفيًا لقصرٍ مسحور.
كما كان بريقُ المرمر بالداخلِ
والكلسِ الجليديِّ في الجدرانِ العاليةِ يؤكدان ذلك الإحساسَ بالبرودةِ الفظةِ.
ويذكرنا ذلك ولو على سبيلِ المثالِ، ببيتِ (أوشر
المسحورِ) في قصةِ (أدجار ألن بو)Edgar
Allan poe
تنقلبُ حياةُ (أليسيا) شبه السعيدةِ
بعد شهورٍ ثلاثةٍ إلى تراجيديا بسبب مرضٍ مبهمٍ ألمَّ بها، فألزمَها الفراشَ
وجعلَها تنهارُ صحيًا بشكلٍ فظيعٍ حتى فقدت وزنَها وبهاءَها الآدميَّ دون أن
يتوصلَ الطبيبُ إلى نتيجةٍ لتشخيصِ المرضِ والذي عجزَ عن تشخيصِه نخبةٌ من
الأطباءِ الآخرين، الذين أكدوا عدمَ صلةِ المرضِ المفجعِ والمباغتِ لها بالأنيميا،
ولا لأيِ مرضٍ مشابهٍ أو معروفٍ.
مكثت المسكينةُ في فراشِها رهينةَ
كوابيسٍ وهلوساتٍ، تتبدى لها في غمرةِ الحمى لصورةِ كائنٍ مفزعٍ، تراه على زاويةِ
السجادةِ بجانبِ السرير. ولكن فاجأنا الكاتبُ في
نهايةِ هذه القصةِ، مباغتًا القارئ، الذي يكتشفُ حقيقةً مفزعةً غيرَ متوقَعَةٍ
بعد موتِ السيدة أليسيا.
كان هذا الكائنُ الغريبُ المنتفخُ
كالكرةِ يمتصُ دَمَها من صَدغِها عندما كان متناهيًا في الصغرِ وأخذَ يتفاقمُ
حجمُه مع كلِّ عمليةِ امتصاصٍ إلى أن صارَ مهولاً، وهو ما يؤكده الطبيبُ في
تقريرِه المؤسَّسِ على فحصِه المختبري الذي أجزمَ بأنها مصابةٌ بأنيميا حادةٍ
لفقدِ الكثيرِ من الدم.
إنها السعادةُ المغدورةُ، التي لم
توفرْها بالضرورةِ إمكانياتُ العيشِ الهائلةِ لطبقةِ الزوجِ النبيلةِ، وهي الفكرةُ
المأساويةُ التي حاولت رؤيةُ (كيروغا) أن تجسدَها كحقيقةٍ متناقضةٍ للوسائلِ
الباذخةِ لحياةِ الرفاهيةِ التي قد تقودُ إلى البؤسِ .. سخريةٌ لاذعةٌ بمناخٍ
دراميٍّ يَلبِسُ كلَ قصصِ (كيروغا) الكئيبةِ كجلدٍ طبيعي. في القصةِ بزغتْ الحكايةُ
من أرضٍ واقعيةٍ وأفَلَتْ في أرضٍ عجائبيةٍ.
لم نكن نتوقع الخاتمة، فقد أوحت
القصةُ بطَمأنينةٍ مخادعةٍ في بدايتِها، حين صدَّرت لقارئها شعورَ الأمانِ، لكونها
حكايةً واقعيةً وعاديةً، ثم ما لبثَ الساردُ بنفضِ صباغةِ الاطمئنانِ عنها; ليعلنَ
عن مصيرٍ غيرِ منتَظَرٍ، وهو تلك الخاتمةُ الغرائبيةُ الشبيهةُ في ضَلعٍ منها
بأحدِ أضلاعِ الخيالِ العلمي، أو بما سيطلقُ عليه في ما بعد وبمرورِ عقودٍ من
الزمنِ بالمسخ.
كل ذلك بوأ ( كيروغا) قيمةً جديرةً
كأحدِ أساتذةِ الرعيلِ الأولِ من كتّابِ القصةِ القصيرة ما لم ينكره له (خورخي لويس
بورخيس).
أسفرت تأملاتُه في هذا النوعِ النزقِ،
عن آراءٍ فذةٍ، دبجَها في نظرياتِه الخاصةِ وأطلقَ وصاياهُ الشهيرةَ التي عُرِفت
بعنوانِ دليلِ القاصِ الناجحِ أوالوصايا العشر للقاصِ الكامل. وأهمها: عليك أن
تؤمن بأستاذية هؤلاء: Chekhov,
Maupassant, Adgar Allan poe, and Rudyard Kipling
كما تؤمن بالله نفسه!
إنها لُعبةُ الموتِ التي نبغت حياةَ (كيروغا)
في مسرَحَتِها بشكلٍ مثيرٍ، وتلك هي قصصُه التي تنضحُ بعرقِ الغرائبيةِ الماجنة.