د. عباس شومان: اللغة العربية أشرف اللغات على الإطلاق
- الخميس 26 ديسمبر 2024
مصر منارة العلم ومهوى أفئدة العلماء
شهدت مصر منذ القرن الهجري الأول ولا تزال حركة علمية واسعة النطاق وأدت دورها في خدمة الشريعة الغراء، وكان مركز هذه الحركة في البداية قبل الأزهر الشريف هو جامع عمرو بن العاص بالفسطاط (مصر القديمة)، أما نواة هذه الحركة فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين جاءوا يفتحون مصر ثم استوطنوها، وقد أفرد بعض علماء مصر السادة الصحابة الذين سكنوا فيها بالتأليف كما فعل محمد بن الربيع الجيزي الذي صنف كتاباً عن الصحابة الذين وفدوا إلى هذا البلد الطيب وعدهم فوجدهم مئة ونيفاً وأربعين صحابياً، وكان هؤلاء الصحابة الأجلاء يحملون حديث رسول الله وبعضهم اختص بأحاديث لم يعرفها غيره فقد رُوِي" أن سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري سمع وهو بالمدينة المنورة أن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه عنده حديثٌ في القصاص؛ فخرج إلى السوق فاشترى بعيراً وشد عليه رحله وسار شهراً حتى وصل إلى مصر ولقي عقبة فقال له: ما جاء بك؟ قال جابر: حديثٌ تُحُدِّثَ به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص لم يبقَ أحدٌ يحدث به عنه غيرك، وأردت أن أسمعه منك قبل أن أموت أو تموت".
وفي هذا الأثر المبارك نلمح شدة اهتمام الصحابة بحديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وتعويلهم الكبير على سنته وأنها مصدر التشريع الثاني ولها حجية راسخة وفي هذا ما يكفي للرد على منكري السنة، ولو قال منكرو السنة نحن لا ننكر حجيتها وإنما نتشكك في أن ما وصل إلينا من أحاديث قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً قلنا إن المسلمين لم يألوا جهداً في العناية بأحاديث النبي صلوات الله عليه سنداً ومتنا ولديهم علماء أفذاذ وهبوا عمرهم لمعرفة الصحيح من الضعيف، كما نلمح في هذه القصة تميز وعلم الصحابة الذين وفدوا على مصر.
وقد اعتبر المحدثون هؤلاء الصحابة مصريون وهذا مفهوم حيث أنهم استوطنوا في مصر وعاشوا فيها وماتوا ودفنوا ولهم أتباع وتلاميذ وللتابعين تابعي تابعين وهكذا تكونت في مصر مدرسة علمية بدأت مع الصحابة الذين رأوا رسول الله وأخذوا العلم من فمه الشريف؛ فعلم المصريين موصول برسول الله صلى الله عليه وسلم ومأخوذٌ من نبعه الطاهر، وأحاديث الصحابة المصريين مبثوثة في الكتب الستة المعروفة عند أهل السنة.
وتخصص في مصر قومٌ للعلم الشريف يدرسونه ويعلمونه للناس ونبغ في مدرستنا المصرية جماعةٌ كبيرة من العلماء المجتهدين كان من أوائلهم "سُلَيم بن عتر التُّجيبي" وهو من التابعين ويعد أول من قص في هذا البلد وكان ذلك عام 39 هـ، والقص هنا معناه الوعظ المطعم بالحكايات من أجل بث العبرة وترقيق القلوب، وقد ولاه معاوية بن أبي سفيان القضاء سنة 40 هـ فبقي فيه عشرين سنة، وهو أول من وضع في مصر سجلاً في المواريث، وتوفي سنة 75 هـ.
وكان يقال لسليم عالم مصر وقاضيها وقد تولى القصص فكان يعظ الناس ويذكرهم وله في القضاء أحكامٌ مأثورة ، وقد شهد فتح مصر زمن الفاروق عمر واستُخلفَ على خراجها في عهد عثمان رضي الله عنه وولاه معاوية القضاء، فكان رحمه الله ورضي الله كفؤاً في علمه وقصه، وكفؤاً في مناصبه وقضاءه.
ومن المشهورين أيضاً من علماء مصر في القرن الأول الهجري السيد أبو عبد الله "عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني" وقد ولاه القضاء والي مصر الأموي عبد العزيز بن مروان والد الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأخو الخليفة عبد الملك بن مروان، وعبد العزيز هذا هو من شيَّد مدينة حلوان، وقد أسند لابن حجيرة القضاء وجمع له معه بيت المال والوعظ وحفظت لنا كتب التاريخ أحكاماً كثيرة وردت عن ابن حجيرة في مسائل مشكلة، وظل رحمه الله في منصب القضاء مدة 12 عاماً ثم توفاه الله سنة 83 هـ وهو ثقة عند النسائي وروى عنه مسلم في صحيحه.
ومن الشخصيات التي لا يمكن غض الطرف عنها في تاريخنا العلمي السيد يزيد بن أبي حبيب الأزدي وكان أزدياً بالولاء وقال عنه فقيه أهل مصر الليث بن سعد: يزيد عالمنا وسيدنا، وقد اهتم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بتعليم الناس في مصر علوم الشريعة والسنن فأوفد إليها نافع مولى عبد الله بن عمر وحامل علمه وفقيه الحجاز وشيخ مالك إمام دار الهجرة وأقام نافع مدة في مصر.
أما يزيد بن أبي حبيب الذي أشرنا إليه فقد عهد إليه عمر بن عبد العزيز بالفتيا وكان أحد ثلاثة انتهت إليهم الفتيا بمصر، وكان مؤرخاً يروى عنه الكثير في أخبار فتوح مصر وفتنها ، كما كان فقيهاً واسع العلم بالحلال والحرام حتى قيل إنه أول من أظهر العلم بمصر وتكلم في الحرام والحلال وكانوا قبل ذلك يتحدثون في الملاحم والفتن والترغيب، وتوفي رحمه الله سنة 128هـ وهو أستاذ الليث بن سعد فقيه مصر المبرز الذي ضيعه أصحابه.
ومن تلاميذ بن أبي حبيب أيضاً عبد الله بن لَهِيعَة الحضرمي وهو شيخٌ مصري كان كثر الأخبار والأحاديث وله مروياتٌ عدة وكان يتشيع وضعَّفَه بعض المحدثين، وقد تولى قضاء مصر زمن أبي جعفر المنصور نحو عشر سنين، وقد رويت عنه آثار عدة في تاريخ مصر ورجالها وتوفي عام 174 هـ.
أما عن الليث بن سعد فكان فقيهاً وصل مرتبة الاجتهاد وكان من المنتظر أن يكون له مذهب مستقل غير أن المصريين لم يعتنوا به وصدق من قال "أزهد الناس في العالم أهله" وكان الليث رحمه الله فارسي الجذور فقد وفد أهله من أصبهان ، وكان مولده في قلقشندة إحدى قرى محافظة القليوبية عام 94هـ وتلقى العلم عن كثير من المشايخ منهم يزيد بن أبي حبيب ثم ارتحل إلى الحجاز وسمع من شيوخها مثل نافع مولى بن عمر وهشام بن عروة وعطاء بن أبي رباح، كما ذهب إلى العراق وأخذ من علماءها، وكان غنياً سخياً وله أملاك واسعة في الجيزة وحكوا أن دخله كان خمسة آلاف دينار في السنة وكان يكثر من الصلات والهداية للعلماء وذوي الحاجة، ويرتحل عبر البحر من الإسكندرية في ثلاث سفن الأولى فيها عياله والثانية فيها مطبخه والثالثة فيها ضيوفه، وكان يهدي مالك بن أنس إمام دار الهجرة مرةً بعد مرة ويكتب إليه " لا تترك الكتاب إليَّ بخبرك وحالك وحال أهلك وأولادك فإني أُسَرُّ بذلك".
وحكى له مالك ذات مرة أن عليه دينا؛ فبعث إليه خمسمائة دينار، واحترقت دار زميله ابن لهيعة فوصله بألف دينار فكان كثير العطاء حتى ورد عنه أنه قال "ما وجيت عليَّ زكاة منذ بلغت" لكثرة ما كان ينفقه فكان الحول لا يحول على ماله.
وكان رحمه الله غزير العلم واسع المعرفة بالفقه والنحو والعربية والشعر والحديث، وكان علماء السنة يثقون في حديثه ويقول عنه إمامهم أحمد بن حنبل "ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث، ما أصح حديثه" وقال الشافعي: "الليث أفقه من مالك غير أن أصحابه لم يقوموا به" وفي رواية "ضيعه قومه" وبالجملة كان رجل مصر علماً وفضلا، وقد مات سنة 175 هـ وقال من شهد جنازته "رأيت الناس كلهم حزانى يعزي بعضهم بعضا".
ولم يقتصر العلم على أبناء العرب الذين وفدوا إلى مصر فقد نبغ في علوم الدين مصريون أصلاء ممن دخلوا الإسلام ونرى منهم السيد عثمان بن سعيد المعروف بورش القبطي صاحب قراءة ورش وهو مولى آل الزبير بن العوام وانتهت إليه رياسة الإقراء في الكنانة وكان ماهراً في العربية ومات رحمه الله سنة 197هـ.
ومن أعلام المصريين "ابن هشام" صاحب السيرة النبوية المنسوبة إليه واسمه "أبو محمد عبد الملك بن هشام" وسيرتها مستقاة من سيرة ابن إسحاق وأصله من العراق، نشـأ في البصرة وقدم إلى مصر وفيها أقام حتى مات سنة 213هـ، وكثير من أحاديث الكتاب أعني سيرة ابن هشام رواها محدثون من أهل مصر، وفيه يقول "حدثنا عبد الله بن وهب عن عبد الله بن لهيعة عن عمر مولى غفرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السُّحم الجِعاد فإن لهم نسباً وصهرا" قال عمر مولى غفرة: نسبهم أن هاجر أم إسماعيل جد العرب منهم وصهرهم أن رسول الله تسرر بمارية القبطية وقال ابن لهيعة: إن هاجر أم العرب كانت من قرية أمام الفرما (بورسعيد حالياً).
ولا نملك حيال هذا الحديث المؤثر الذي نختم به الكلام عن مصر وفضلها سوى أن نقول أعز الله مصر وأبقاها درة للعرب والمسلمين.