د. خالد فوزي حمزة يكتب: ذكريات عن الشيخ أحمد محمد إدريس النيجري

  • أحمد عبد الله
  • الخميس 04 يونيو 2020, 10:08 مساءً
  • 3806

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه....

أما بعد.. فمن مدرسي دار الحديث الخيرية: الشيخ أحمد إدريس من بلاد النيجر.

هو الشيخ العالم الفقيه الأصولي العالم الرباني أحمد إدريس، درس عدة سنوات في دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة، وكان أول معرفتي به ربما في عام 1418هـ، حيث كنت أقوم بعمل دورة للمتميزين من طلاب الدار لما قررت الدار تعيين معيدين لأول مرة، وطلب مني ناظر وقفها آنذاك أعمل دورة طرق التدريس، وكيفية وضع مقاييس التحصيل، وكذا الإدارة المدرسية، وكانت دورة لكبار المتخرجين، وممن تم تعيينهم بعد ذلك أمثال الشيخ إبراهيم عيسى والشيخ سيد عبد العال رحمه الله والشيخ صلاح قشطة، وغيرهم.

وجاء الشيخ أحمد إدريس بعد الانتهاء، ولكنه في اختبار القبول حصل على (98%)، وكانت أعلى الدرجات، مع تقارب مع الآخرين.

وطلبت الدار مني وضع الجداول، ومتابعة هؤلاء النخبة الجديدة، فكان نصيب الشيخ إدريس الفقه، فكنت أنتهز بعض حصص الفرغ عندي، وأدخل أجلس مع الطلاب، فوجدتني أمام طود كبير في الفقه، لقد كان (دفتر التحضير) خاصته؛ بمثابة تحشية على الكتاب، مملوء بالفوائد والفرائد، ثم توالت السنون، ودرس الشيخ مواداً مختلفة، من لغة عربية، فعرفت أنه إمام في النحو، ودرس الحديث والمصطلح، وغيرها من مواد الدار، علماً أن مواد دار الحديث الخيرية قد اختيرت بعناية من كتب التراث، فليست هي كشأن المذكرات الحديثة في الجامعات، وذاك في جل الكتب.

وبدأت أعلم أن الشيخ أحمد إدريس بارع في كل العلوم تقريباً، وكان معظماً للسنة جداً، مع كونه لطيفَ المعشر، فلا أعلم أنه طيلة عمله بالدار قد أغضب أحداً من زملائه، وكان يرضى بما يوكل له من العمل بغير امتعاض، أياً كان هذا العمل، وتزاملت معه أيضاً في لجان عديدة، منها: لجنة النظام والمراقبة في الاختبارات، وما يقال له التحكم في الاختبارات (الكونترول)، وأذكر أننا كنا نعمل بالأسلوب القديم بوضع (الأرقام السرية)، وكان الشيخ أدق ما يكون في وضع الأرقام السرية على أوراق الإجابات، لأنه ما كان يسلسل الأرقام لاحتمال التغيب، بل كان يضع الرقم منسباً لرقم جلوس كل طالب على حدة، ومن تعانى هذا الأسلوب علم دقة ما أذكره.

ومنذ مجيئه الدار؛ بدأ طلبة العلم يلتفون حول الشيخ، وكنت دوماً أحيل إليه في معضلات المسائل، وأطلب من السائل أن يرد علي إجابات الشيخ لأتعلم منها، وما كنت أجلس معه كثيراً لكثرة الأشغال، لكن كنت لا أضيع الأوقات العابرة التي ألتقي بها فيه، فأسأل عن بعض المسائل، وأدارسه أخرى.

مرة سمعني أتكلم عن مسألة (التدمية البيضاء)، فالتفت وقال هذه عندنا في المذهب، فانتبهت أنه مشتغل بالمذهب المالكي، وبالفعل أخبرني أنه كان يدرسه إبان بداياته بصحراء النيجر، حيث حفظَ القرآن، والمتون، والتلقي في الصحراء كما يعرفه العلماء أنشط على التركيز من التلقي في المدينة لصفاء الذهن، فبدأت أسأل الشيخ عن عويص مسائل المالكية، وكثيراً ما كان يجيب، ومما أذكره أني سألته عن قول الحطاب في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل (وَأَنْ يَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)، حيث أشكل علي أن يقال: (وأن يتوفانا) بإثبات الألف، لأنها إنما تحذف في الجزم فحسب، وقد بحثت في كتب النحو فلم أجد وجهاً لحذفها في النصب، رغم أني وجدت وجهاً في إثبات الألف حال الجزم!، وبعد المباحثة معه أشار أنه يمكن توجيه ذلك بتقدير الشرط، أي: (وإن يتوفنا؛ فهو غاية ما نأمله)، أو ما أشبه ذلك، أو أن تكون الألف موجودة نطقاً لا رسماً، نحو (هاذه وهاؤلاء) فإننا نكتبها بحذف الألف (هذه وهؤلاء)، وكذا القول في السموات والرحمن وألف ابن بين علمين، ونحو ذلك.

وبدأت وقتها أجمع له الأسولة في الفقه المالكي، ونتباحث، ولربما استمهل لمعاودة البحث أو النظر، وأبطأت عليه في المسائل مرة، فرآني مرة في مسجد الدار، فقال أنا أنتظر أسولتك، فلم تأخرت علي!؟، تباحثنا في أمور كثيرة في العلوم ومنها الفقه المالكي، فتم البحث في استخدام الحطاب لمصطلح (فرع)، وهي في كتابه (ما يناهز ألف فرع) ومصطلح (مسالة) كنوع من التقسيم للكلام على فقه الفصل أو الباب، فهو يقسمه إلى مسائل، ثم يفرع على المسائل بفروع، وهي (قريب ألف مسألة)، وما أورده الحطاب عن اللخمي قوله "وَلَيْسَ الظِّهَارُ كَالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الطَّلَاقِ مُوَجَّهٌ إلَى الزَّوْجَيْنِ وَفِي الظِّهَارِ يَتَوَجَّهُ إلَى الزَّوْجِ خَاصَّةً اهـ فَتَأَمَّلْهُ" وأن العبارة تحتمل والله أعلم أن الطلاق له أحكام تتعلق بالزوج والزوجة، أما الظهار فهو فعل الرجل وقد ينهيه بالكفارة، لكن يَرِد مثل ذلك في الطلاق الرجعي أيضاً لعدم توقف المراجعة على رضا الزوجة ما دامت بالعدة، وهكذا كانت (النكات العلمية) بيني وبينه تزين حياتنا في الدار.

وكان رحمه الله زاهداً منجمعاً عن الدنيا، وأصيب بمشاكل صحية في آخر وقته بالدار، ونقل غير مرة إلى المستشفى، وفي ليلة الجمعة (19 رمضان 1440هـ)، صلى العشاء، فتوفي وهو ساجد، كما أبلغني الشيخ عبد الله محمد شلبي شاعر الدار، وتلميذ الشيخ، وقد رثاه بقصيدة منها قوله: (من ذا أعزي؟! والمصيبة في دمي .. ألمٌ يحث اللوم والتقريعا) (بعض المصائب لا يعزى أهلها ... لفظ العزاء يثير فيَّ دموعا) (يا من فقدنا صوته الحاني على ... طلابه .. علْمًا سقاهُ خشوعا) (عانقت ماذا في السجود محبة ... آثرت بعد عناقه التوديعا؟؟) (ها نحن بعدك .. ننشق العطر الذي ... خلفت حتى ينتشي ويضوعا!) (ورويتنا من شهد علمك نهلة ... وملأت كل المظلمات شموعا) (فعساك تحظى بالذي أملته ... بين الجنان .. وأن نراك جميعا).

ولعل كبار طلاب الشيخ أحمد إدريس يتحفونا ببعض فوائده العلمية التي تلقوها منه، رحم الله الشيخ أحمد إدريس، وجمعنا به في جناته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والله أعلم،  وبالله التوفيق.                                   


كتبه

أ.د. خالد بن فوزي حمزة

تعليقات