د. أحمد فاضل يكتب: "الذوبان على الورق".. دراسة نقدية

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 03 يونيو 2020, 11:07 مساءً
  • 1448

الشاعر المصري الكبير عبد الستار سليم في قصيدته :

" الذوبان على الورق " 

اعترافات عاشق أزلي

( دراسة نقدية ) 

كتابة: أحمد فاضل 
ناقد ومترجم عراقي


أطلق   الشاعر   الإنجليزي  الكبير  ويليام  وردزورث  على  الشعر  اسم " التدفق العفوي للمشاعر " ، كانت  كلماته  هذه  مصدر  إلهام  للكثير من الشعراء  ولا أستثني  منهم  شعراء العربية ، لأن مصبه واحد ومنبعه تلك العواطف  التي  تدغدغ أحاسيسهم  ، وحينما   يلتقط الشاعر تلك العواطف فإنها  تشكل  لديه  حدثاً مهماً ،  تتدفق  بحرية  في حفر مشاعره  وتشكيلها شعراً .

ومع  أننا  قد نقف أمام  الكثير من الصور الملموسة لتلك القصائد  ،  نجدنا ونحن نتلو قصيدة الشاعر الكبير عبد الستار سليم ، أمام قصيدة تم إنشاؤها من   خلال   تفاصيل   ملموسة   تحفز  قارئها  بالتركيز  عليها  بدلاً  من فكرتها ، واستعادة  مشاعر الشاعر  وهو يخوض بتفاصيلها التي  منحتني غواية  التعرف  على  لغتها  وصورها  الابداعية  ،  تشبيهاتها   الخاصة واستعاراتها ، جميعها توقفتُ أمام أول أصواتها تلك التي بثها الشاعر في مفتتح القصيدة :

أحُثّ ُ إليكِ الخُطَا

وألوذُ بِباحةِ 

دِفئكْ 

فأنتِ مرافِيءُ أيامِىَ

الجانِحَة ْ

وأنتِ النّمارِق ُ مصفوفَة ً ،

والزّرابِىّ ُ مبْـثــوثة ً ،

والطيورُ المُصفِّــقةُ الأجنِحَة ْ

وأنتِ 

هوَى اليوْم ِ ، 

والغَدِ ، 

والبارِ حَةْ

هنا  يقف الشاعر ليؤرخ عواطفه – قد لا يكون بالضرورة هو المقصود – مع  أن  الشعراء هم مؤرخو احتفالاتنا على كل الأصعدة بما فيها العواطف ، وهم  الذين  يقدمون  لنا  العزاء  أيضاً ،  هم  مرآة مجتمعاتهم ،  فالأبيات العشرة  الأولى  لقصيدة  سليم  هي لواعج مبثوثة ، حرارتها تُلهبُ  الروح بقصدية معانيها ، وبلغتها وإيقاعاتها التي تنتهي ب – تاء – التأنيث ، وكأن  الشاعر وهو يطرح مغازلته تلك أشار بصوت عال إليها ليُسمعها صوته ،

أما  أبياته  الأخرى  ، فهي منوعة النغمات تنقل مشاعر الشاعر بقوة حين يقسم ، بالخبز والملح والحب والجرح ، وهم عقد الوئام الأبدي : 

وأُقسِمُ بالخُبْزِ والمِلْح ِ ، 

أُقسمُ بالحُبِّ والجُرْحِ ،

أنّ الطموحَ إلى 

غيرِ عيْنيْكِ

لَهْوٌ

ومَضْيَعَةٌ للزمانْ

وأنّ عيونَكِ شَطْر ُ الأمان ْ

عيونُكِ 

ليْسَتْ كَكُلّ ِ العيون ِ ، 

وليس كمِثلِكِ 

كُلّ ُ الـنّســاء ْ

لننظر كيف  تعامل  الشاعر مع تقنيات كتابة قصيدة النثر الحداثوية  بروح تجريبية   بالكامل  ، وبحد  أدنى  من  التكثيف اللغوي ، وغالباً ما تضمنت مسارات  صوتية  أو رسومات  أو أحداث ، هذه  التوليفات التي استخدمها الشاعر برأيي قوضت الرتابة الشعرية التي اشتهر بها الكثير ممن  يكتبون القصيدة الحديثة  وزادت من وعي الشاعر وهو ينتقل بنا إلى بقية القصيدة :

وحين اصْطفاكِ الفؤادُ 

اصْطفَى

الشّجَنَ المُـرّ َ ، 

والسّهَرَ المتطاوِلَ ، 

والنّقْـــشَ

فوقَ جــدارِ المساء ْ

فيا امرأةً مِن عبيرٍ ،

ويا امرأةً مِن حرير ٍ،

وياامرأةً مِن 

ذهبْ 

ويا امرأةً مِن سُهاد ٍ

ويا امرأةً مِن بِعاد ٍ

ويا امرأةً من 

تَعَب ْ

يُحاصرُنى صَوتُكِ العذْبُ ، 

سُلطانُكِ الــــرّ َحْبُ ، 

ضِحكَــتُــكِ المرْيَمِـــيّة ْ

فأُهزَمُ قبلَ شُــروعِىَ فى 

هِجْــرتى المَوْسِمِيّة

في  هذه  الأبيات  خلق  الشاعر  حالة  معينة ، تباين  بين  حالتين محددتين باستخدامه  لغة واضحة  غير ملغزة ، ودقيقة تم اختيارها لتأثيرها ودلالتها وصوتها ،  وتكرار لصورة قوية في القصيدة هي صورة – المناداة – في وسط أبياتها – فيا امرأة ، ويا امرأة ، ويا زهرة العمر ، يا وقدة الجمر ، يا سفر الحلم – :

ويا زَهــرَةَ العُــمْـرِ 

يا وَقْدَةَ الجمْر ِ ، 

يا سَفَرَ الحُلْم ِ

فوق َ 

لهيبِ الـــشّجَـــنْ

نهارُ الأسَى زمَنٌ 

لا يُقاسُ بِمِزْوَلَةِ الوقتِ 

مِثْــلَ الزّمَنْ

وقانُون ُ هــذِى المدينةِ

يَسْلُبُنى رَجْفَةَ العِشْقِ ،

يَحــــرِمُنِى لَذّ َةَ النّــُـطْقِ ،

يَقتُلُ فوقَ شِفاهِى الكلامْ 

يُعذِّبُنى بالحنينِ 

المُؤطّــَـر ِ،

والسّيْرِ 

عَــــبْرَ ثُقوبِ المسَام ْ

هنا  وبعد – ياء المناداة – ينتقل الشاعر ليفيض بأحزانه وكأنه يضع خاتمة لتاريخ  عواطفه  ، بتعابير  إبداعية داخل لغته الشعرية لأن معظم الأشكال الفنية تقع في واحدة من فئتين : 

النثر  أو  الشعر  ، حيث  يتضمن  النثر  قطعاً  من  الكتابة  مثل  الروايات والقصص القصيرة والنصوص ، تحتوي هذه الأنواع من الكتابة على نوع اللغة  العادية  المسموعة  في  الكلام  اليومي  ،  بينما  يشمل الشعر كلمات الأغاني ، وأشكاله الشعرية الأخرى  المختلفة  والحوار المسرحي ،   ومع

ذلك ،  فإن  النثر والشعر ليسا طبقيين تماماً بحيث لا يمكن لأحد أن يحتوي على  عناصر  الآخر ، فقصيدة  النثر هي  صيغة  كتابة إبداعية تجمع بين عناصر  الشكل  الشعري  والشكل  النثري  ،  وقبل  أن ننتهي من قراءة " الذوبان  على  الورق " القصيدة  ،  نتوقف  عند  اعتراف  الشاعر  بفيض عواطفه  والنزوع  بها  نحو  الحبيب ، حيث تناول كل ذلك بأسلوب غنائي توددي لا يخرج عن مضامين أصول الشعر النثري الحديث * : 

وحينَ يَفِــيضُ الهوَى

بالرّ ُؤَى ،

والمَـدامِع ْ

أحُــثّ ُ إليكِ الخُطَا 

وأُرَجِّــعُ لَحْنًا 

شَجِـــىّ َ المَــقاطِعْ

لَعَـــــلّ َ الفُــؤادَ يُــبَـلّـــلُ 

بالإصْطِبارْ

فإنّ تَوَهّـُـجَ قِنْــديلِ 

حُبّـِكِ

- فى القلبِ - نور ٌ و نارْ

*

و طَيْفُكِ 

آخرُ ما تَشْتهيهِ عــيُو نِـىَ 

حينَ أنامْ

و حين يِـــؤَذّنُ فَجْرُ المدينةِ

أرْكُضُ خلْفَ ابتسامِكِ 

- رغْمَ الحِصار ِ -

مَسِــيرَةَ عامْ 

و حين أراكِ أُصابُ

بِـداءَ يْنِ

داءِ التمَدّ ُدِ فى دِفْءِ

عيْنيْــكِ شَوْقًا 

و داءِ تعاطِى الأرَقْ 

فأُشطَرُ نِصْفَـــيْنِ 

نِصْفًا يَــراكِ 

ونِصْفًا يذوبُ على 

صفَحاتِ الوَرَقْ ... !! 

" الذوبان على الورق "  قطعة  شعرية  مؤطرة  بإيقاعية  محببة ، إنسابت أبياتها  لتشكل  – أغنية –  يتردد  صداها  على الورق قبل أن تتلقفها عيون وآذان القارئ ، وهو يعيش حالة رومانسية محببة يفتقد إليها الشعر العاطفي الآن . 

* حاشية / 

ما هية أصول الشعر النثري ؟

يوجد  الشعر النثري في العديد من الثقافات حول العالم ، في اليابان ،  يتتبع النثر  الشعري  جذوره  إلى  اليابان في القرن السابع عشر ، حيث  اخترع ماتسو باشو ،  وهو  شاعر  بارز  في  فترة  إيدو اليابانية ، اختلافاً  شعرياً ، خلط   عناصر   النثر مع عناصر الهايكو التقليدية  .

 أما   في   الثقافة   الغربية  ،  فقد  قاد سرب من الشعراء الفرنسيين حركة   نحو   الشعر  النثري  ،  بدءاً     بتجميع Gaspard de la Nuit للمؤلف  Aloysius Bertrand. في وقت لاحق من القرن التاسع عشر الشعراء ، لتشمل ستيفان مالارمي ، تشارلز بودلير  Spleen de Paris  و Arthur ، أما  على  صعيد  شعراء  اللغة  الإنجليزية  فقد  احتضن  الشعر  النثري الأيرلندي  أوسكار وايلد  والشعراء  الأمريكيين  مثل والت ويتمان وإدغار آلان بو .

أما  الإنجليزي  تي  إس إليوت فقد  منتقداً صريحاً للشكل ، على الرغم من أن  جيرترود شتاين ،  المغترب  الأمريكي في باريس ، تمتع بقبول الشعر النثري في الثقافة الفرنسية .

بحلول منتصف القرن العشرين ، تمتع الشعر النثري بإحياءه في  الولايات

المتحدة الأمريكية على يد وليام س بوروز وألين جنسبرج .

تعليقات