د. حسام عقل يكتب: العبَّاسة معلماً دالا على صورة المستقبل للشعرية العربية

  • جداريات 2
  • الأحد 31 مايو 2020, 2:33 مساءً
  • 2148
د. حسام عقل

د. حسام عقل

هذا الديوان يُمثل أهمّ ما حدث من تطور لقصيدة القناع، وإذا نظرنا نجد أن قليلًا من النقاد كتبوا حول قصيدة القناع؛ منهم د. جابر عصفور في دراسته: " أقنعة الشعر المعاصر"، والناقد العراقي د. عبد الرضا علي في دراسته " القناع في الشعر العربي المعاصر"، وأيضًا دراسات أوّلية للراحل الناقد والمحقق د. إحسان عباس. 

قصيدة القناع معناها أن يستعير الشاعر قناعًا من التراث وأن يَنْحَله كل ما شاء من انشغالاتٍ عصريةٍ. 

وإذا أردنا تعريفًا أكاديميًّا نقول: هو أن تصطنع رمزًا وتحتفظ بمسافة موضوعية مع هذا الرمز حتى لا تصبح القصيدة غنائية ومحض تدفق الذات، مثل استعارة (لوركا) و(الحجاج بن يوسف الثقفي) و(محيي الدين بن عربي)..وغيرها من الرموز عند كثير من الشعراء. 

والحقيقة أنك تجد محمود حسن قد استعار في ديوانه رمزًا غريبًا وجديدًا وهو(العبّاسة)، وهي أخت هارون الرشيد وذاعت شهرتها بالشعر والموسيقا. وهو حين يختار العبّاسة تكون زاوية الرؤية أنثوية بامتياز، يدعم بذلك الأدب النسوي وإن تجاهله البعض إ feminism 

انظر إلى صيحتها وهي تنتفض: 

                        هل نازعتُكَ سلطانك يومًا؟ 

                        وأنا امرأةٌ عربية 

                     خرجت من وأد الحفرة موؤودة 

                      من ذاك ينازع هارونًا مُلْكَه؟! 

فهي حين تتحدّى نزعات أخيها السلطوية لا تعبر عن نفسها بل تعبر عن أزمة بنات جنسها. 

لكن حذار أن تعتقد أن هذه قصيدة تاريخية ؛ لأنه هنا قد تحقق التعريف المنضبط لكلمة ديوان..حيث يعني الديوان: أن يكون بين قصائده لُحمةً موضوعية وهذا ما يفرّق بين الديوان والمجموعة الشعرية. 

فنحن هنا أمام ديوان لا يمكن فيه أن تفهم قصيدة إلا بالإحالة إلى القصيدة السابقة أو اللاحقة، إذن نحن أمام ديوان بالمفهوم الاصطلاحي المنضبط. 

وليست القضية في قصيدة القناع أن تستدعي وجهًا تاريخيًّا، وإنما أن تتحرك طيلة الوقت بآلية التوازي 

. فتجد الشاعر هنا يتحدث عن البلاط العباسي، ثم يفجؤك بمصطلح "الدبابات الصّدئة"!!Metaphorيعني بلاغة الاستعارة. 

وهذا هو الاستقطاب والإسقاط عليه الذي صنعه محمود حسن في (العباسة). وأنا أتصور منذ ودّعنا السياب ، وهو في تقديري أفضل من وظف قصيدة القناع يكفي أن تقرأ له (أفياء جيكور) وغيرها، أيضا البياتي كتب قصيدة القناع كما في (تحولات محيي الدين بن عربي)، وفي تقديري الخاص أن الشعرية العربية قد صمتت كثيرًا دون قصيدة القناع، وها هي تعود بقوة وزخم من خلال ديوان العبّاسة الذي أراه في تصوري أهم تطور وتحديث لقصيدة القناع. 

إذا نظرنا إلى الإهداء نجده (إلى الإنسانية)..إذن الذات الشاعرة يريد أن يرفع القصيدة إلى مصافّ المآسي الإنسانية الكبرى، والعبارة ليست لي وإنما للراحل يحيى حقي وقد استخدم هذه العبارة وهو بصدد مناقشة مجموعة قصصية لمحمد ديب (في المقهى) فقال: "إن أزمة الشعر العربي والقصص العربي أن ترفع الواقعة الجزئية إلى صفوف المآسي الإنسانية الكبرى". 

وأتصور أن هذا الإهداء دالّ جدًّا وهو مفتاح لكل قصيدة من قصائد الديوان التي عُنونت بأسماء شخصيات من الذين شهدوا فترة هارون الرشيد من وجهة نظر الشاعر، حتى أبو العتاهية يكاد يشعرني أنه كان مؤرخ المرحلة وضميرها. 

إذن استطاع الشاعر أن يقلّب تربة هذه الفترة ويخرج لنا صورة غير التي نعرفها عن العصر العباسي. 

بالنظر إلى المقطع الأول يظهر أنه استخدم تقنيات أسلوبية جديدة يستشعرها المتابع للأعمال السابقة لمحمود حسن (التسبيح بالجسد) و (سفر التوسل)، وهي تقنية الإرجاء الدلاليّ، وهي تعني أن يضع الشاعر شرطًا ثم يؤخّر جوابه، مما يخلق مزيدًا من الغموض والتشويق بعد أن خلق تشويقًا على نسق الصورة والأخيلة الشعرية. والحقّ أن تقنية اإرجاء الدلاليّ تمثل خطورة في استخدامها، أذكر منذ سبع سنوات عند مناقشتي لديوان (هيكل الزهر) لفاطمة ناعوت أنها انتظرت بين الشرط وجوابه ثلاثة عشر سطرا وهل من الممكن أن ينتظر المتلقي كل هذه الأسطر بين الشرط وجوابه؟! فليس كل من يستخدم تقنية الإرجاء الدلالي ينجح في ذلك لأنها تحتاج إلى رهافة وتوازن وحساسية في الأداء اللغوي..ونجد أنه قد وفّق في استخدامها بشكلٍ مميزٍ، نأخذ من ذلك مثالًا: 

يقول محمود حسن: 

                  لو أنّي أعلمُ أنّ السيفَ إلى عُنقي 

                 ونكاحَ العينين العاشقتين يُرسّخ في دولته كذِبَهْ 

تجد جواب الشرط قد تأخّر خمسة أسطر شعرية حتى يأتيك قائلًا: 

                 كُنتُ كفرتُ بهارون رَضيعًا وخليفة 

ولاحظ طزاجة تعبير (نكاح العينين) وهذا ما نسميه بتجديد التعبير ونضارته ، ينقل الشاعر إلينا صورة العشق المصفّى بين العباسة وجعفر، والذي بدأ بشوكة انغرست في كفّها ونزعها بأسنانه وتلك رؤية الشاعر، هكذا أثار فضاءات التخييل في القصة وتلاحظ اشتغاله على الرمزيات، ونجد هنا رمزيات كثيرة تفتح مجالات التأويل مثل كلمة الثّأر في قوله: 

                  كُنتُ  رسمتُ براحًا ومساحاتٍ 

                  للخيل المصنوعةِ من ثأرٍ يتخلّقُ في الغيبِ القادم 

يستطيع هنا كل متأوّل أن يرى الثّأر ممن ولمن من وجهة نظره. 

وتظل بؤرة الضوء على العاشقين جعفر والعباسة، وفكرة النفس الرومانتيكي الممتد أو الفاكهة المُحرّمة كما يُقال، نظرًا لما كان من فروق طبقية بينهما، فتجده يفتح ثُلمة الصورة على مساحة أخرى وهو يتحدث عن الفروق الاجتماعية التي قد تقف حائلًا أمام هذا العشق. 

يقول: 

                عفوًا يا عبّاسة.. 

                ما كنتُ لأجرؤَ أن أمنع حضنَكِ عن حِضْني 

                وشفاهكِ عن شفَتِي 

                أن تَحرقني النارُ بتلك الليلة 

ملمحٌ آخر نراه في هذا الديوان الذي يشي في مجمله بالنفس الطويل وهو استخدام الشاعر (الاستعارة الممتدة) ، 

extended metaphor   

فهناك الاستعارة الجزئية كأن تقول: رأيت قمرًا منيرًا وتقصد امرأة جميلة فهذه الصورة انتهت، أما هذا النوع من الاستعارة قد يستغرق صفحة..وامتطاء النفس الكتابي ليس أمرًا سهلًا؛ أذكر أنني قلت عند مناقشة ديوان (رقصات نيلية) للشاعر ابراهيم أبو سنة وهو اسم كبير في الشعرية العربية إلا أن استعاراته التي استخدمها فيه كانت جزئية لم يمتد فيها بالصور. والاستعارة الممتدة تحتاج من الشاعر جهدًا فنيًّا كبيرًا وهذا ما يصنعه محمود حسن إذ تحوّل الحب لديه إلى يمامة تحطّ على صدر العاشق، ليس هذا فحسب بل يمتد بالصورة فيجعلها (تنقر في الرئتين) ويوسّع رقعتها ومساحتها، يقول: 

                ويمامُكِ حطّ على مملكتي 

                ينقرُ في صدري 

                يلتقطُ الحَبّ من الغابات ويمرحُ في الرئةِ. 

  

التناصّ الديني في العباسة: 

تجد أن محمود حسن في العباسة يستفزّ الرمز الديني بذكاء في التعامل مع الموروث، ويستخدم كل أشكال التناصّ، ولكن ليس من قبيل التوازي وإنما هو تناصّ مركّب يستفزّ المتلقي أن يكون يقظًا طيلة الوقت، وليس كل شاعر يهتم بالمتلقي أو يضعه في حسابه، فالتجربة السبعينية كلها لم تضع المتلقي في حسابها ولذلك فالمتلقي عاقب التجربة السبعينية بالانفضاض عنها، ثم جاء الجيل الثمانيني ليعيد المتلقي إلى الساحة ويضبط رمّانة الميزان إلا أنهم سقطوا من حسابات النقاد للأسف. وهنا نجد أن محمود حسن يضع المتلقي في حساباته فتجده يختبر يقظة المتلقي بطريقة وخز الإبر ليستفزّه لمتابعة القصيدة، انظرالتناصّ مع قابيل وهابيل في المقطع الثالث حيث يقول: 

              لكِن إنْ شبّ الرجلانْ.. 

              وارتكبَ الأولُ معصيةَ الذبح الأولى 

              جاء غرابُ الأرضِ كطاووسٍ ليُعلّم هارونَ طُقوس الدفنِ 

              ويفقأَ عينَ الإنسانْ     

كما نجد الشاعر يفتح مساحاتٍ كبيرةً للانشغالات العصرية، يشغله الاستعمار العصري وحالة الانقسام العربي حين يقول: 

                رجلٌ ملَكَ الدنيا 

                وأخوه ذبيحٌ بين يديه   

                والشعب الأعزل شعبان 

                وملابس سودٌ...وامرأتان.. 

أبدًا لم تكن الإشارة هنا إلى نكبة البرامكة والبلاط العباسي؛ إنما تراه يسلط الضوء على الانشغالات العصرية والحالة العربية فيما هي بين حالة تراثية وحالة عصرية. 

ومن الأشياء الإيجابية في الديوان تلقيح القصيدة بالحسّ السرديّ حيث يجد المتلقي نفسه أمام وحدة سردية تُنمّى شيئًا فشيئًا، وهذا جزءٌ من انفتاحات القصيدة العربية الآن. فالحكّاء الشعبي نوّع بين الحالة القصصية والحالة الشعرية كما في تغريبة بني هلال، ونجد هذا يتمثل في قصيدة (العباسة)؛ فتجد أولا قصة العشق ثم الانكسارات والانخزالات ثم الحُلم المجهض وكل ذلك في وحداتٍ سرديةٍ تُنمّى وتتصاعد. 

وإذا أشرنا إلى (بلاغة التورية) هنا نجد أنه يستخدمها كثيرًا، بل هي جزءٌ أساسي من جملة محمود حسن مثلًا حين يتحدث على لسان العباسة قائلًا: 

              جعفر ضمّد جُرحي من عشرة أعوام 

يمكن أن يُقصد بالجرح جُرح الشوكة، ويمكن أن يقصد به جرح القلب. 

وحين تنظر إلى اختصارات الأسلوب في الديوان، لا تجد أبدًا مجالات للحشو أو الثرثرة، تجده مثل الشهقة حالة من التصارع الإيقاعي الذي نتج عن ضغط الأسلوب مثل تعدد الأخبار للناسخ الواحد، أو أن يكتفي بحرف العطف وقد صنع هذا نوعًا من التحضيض الإيقاعي، يقول متحدثًا عن العبّاسة: 

              صِرْتُ الآن البائسةَ الأشهر، والمكلومة، 

              والمصدومة، والمدهوشة والمرتبكة 

توالي النعوت وكأنها زخّات رصاص حي تجعل المتلقي منتبهًا لا يمكن أن يشرد ببصره لحظة. 

رسائل مهمة يقدّمها هذا الديوان: 

هذا الديوان (العبّاسة) في مُجمله يحمل رسائل مهمة تتمثل في أننا لن ننال الحرية دون التلاحم، حين يكون الإسقاط على العنصرية حيث العربي والبرمكيّ يقول: 

              هل دمُنا العربي هو العسجدُ من فوق 

              سماواتِ الله تنزّل، فامتازَ دمٌ، وانحطّ دمٌ         

              وانسالَ دمٌ في حِجْركَ حين غَضبتَ 

              وشقّ طريقًا خاضَ بهِ مَن سَلَكهْ؟ 

هو لايقصد البرامكة وإنما يفتح الدائرة الدلالية ليمتدّ إلى إنسان النفط والمهمشين في كل زمان ومكان، حيث قفز بنا من المهمشين في الأحياء الخلفية في العصر العباسيّ إلى "ملح الأرض" الآن وهذا التعبير في الكتاب المقدّس، يقول: 

            أشعلتَ النارَ بجُرنِ القمحِ وبالحقل، 

            وأتلفتَ بيوت الفلاحين وعُمّالَ التّرحيلة 

فأنت لن تصل إلى أقصى درجات التماهي إلا عندما يتعانق الشاعر مع انشغالات الحرية في المطلق وليس في البلاط العباسيّ، يقول: 

            ما أقبحَ أن يصبحَ لثم القدم الملكية 

            أفيونَ الشعب المتغيب قسرًا وحشيشَهْ! 

وتلك قضية الأحرار عبر الأزمنة والأمكنة. فهو عندما تحدث عن بغداد لا تشعر أبدًا أنه يعني بغداد القديمة حين يقول: 

            بغداد يُباع التاريخ بها سوماريًّا آكاديًّا 

            عباسيًّا وحضارة بابل والآشورية 

            والماءُ بدجلةَ والنّفط 

            ويُهجّنُ عِرقٌ عربيٌّ والسّبط 

            لابد وأن يلعبَ فأرُ التاريخِ إذا غابَ القِطّ 

وهو في رؤيتي الخاصة من أجمل مقاطع الديوان بل هو مفتاحه كله، فهو يتمثل تحوّل بغداد التي أسقطتها المؤامرة الأمريكية، فمخالب القط هنا لا يقصد بها يحيى أو جعفر، وإنما يقصد الخونة الذين تناوبوا على المشهد العراقي. 

هكذا نرى الحرية التي لن تأتي إلا بالتلاحم لأن الطاغوت دائمًا ينتظر ثغرة في الصفّ، يقول الشاعر: 

            حِينَ تَآكلَ حَبلُ الشعب السُّري 

            ما كان لدى يوسفَ إلا أنْ يَستَلْطفَ جُبّهْ     

وهنا تجد تكنيك المقابلة يتحرك طيلة الوقت، الشيء ونقيضه حين يقول: 

            في القصرِ خُمُورٌ ونساءٌ عاريةٌ وفُجورٌ وغناءْ 

           وسُجودٌ وقيامٌ وصيامٌ وقراءةُ قرآنٍ وبُكاءْ 

            في القصرِ العِزّةُ والذّلّةْ 

            وملابسُ مُتّسخاتٌ وأناقةُ حُلّةْ 

هو يسقط على كل الرمزيات الموجودة الآن كرمزية الإعلام الحرباء المتلون والصحفي الذي يشجب اليوم ثم يدين غدا بل وقد يصل إلى التقديس والتأليه، مما يشعر الطاغية بحتمية ما يرتكبه ظنًّا منه أنه للصالح العام؛ لم يعترف هتلر ولا ستاليني الذي قتل خمسين مليونًا بخطأيهما، وهكذا لا يعترف الطغاة بأخطائهم، وهذا ما يمثله مُلتمس هارون الرشيد في آخر الديوان. 

ثم يحتفظ محمود حسن بمفاجأة في نهاية الديوان حين يطلعك بأن كل ما مضى كان حلما، رؤى منامية، نعم نحن لا نتكشف إلا في عالم الحلم فنواجه أنفسنا وعالمنا بالرغبات الحقيقية. 

أستطيع أن أقول بعد كل ما سبق أن ما صنعه الشاعر محمود حسن في ديوانه العباسة يعد بصدق أهم تطور وتحديث لقصيدة القناع في عصرنا الحالي



و تظل قصيدة الشاعر المتحقق " محمود حسن " ، معلماً دالاً على صورة المستقبل لمشروعه الشعري ، و للشعرية العربية . 

 


تعليقات