حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
د. عزوز علي إسماعيل
السَّرِقَاتُ الأدَبِيَّةُ والفَنِّيَّةُ على مرِّ التَّاريخ ما هي إلا عتباتٌ نَصِّيَّةٌ مُهمَّةٌ للأدبِ والفنِّ؛ لأنَّها في الأدَبِ أو الفن تستدعي نَصَّيْن مُهِمَّين؛ الأول هو الأصْلُ، والثَّانِي المَسْرُوق، بمعنى أنَّ الحَديثَ عن السَّرِقَاتِ أو الاسْتِشْهَادَ بالمَسْرُوْقِ، لتِبْيَانِ الأصْل، يَجْعَلُنا حتماً ندخل إلى عالمِ النَّصِّ، فالسَّرِقَةُ تحفِّزُنَا على البحثِ في المَسْرُوْقِ، والمُقَارَنَةِ بالأصلِ الذي سُرِقَ منه، سواء أكانت أعمالاً أدبية أم فنية، وما يُنسب إلى الآخرين في مجال الفنون كافة دون وجه حق، سواء أكانوا أحياء أم أمواتاً بدون قصد، وكيف أنَّها سَرِقةٌ والسَّرِقَةُ في عُرْفِ جَمِيْعِ الأديانِ حرامٌ، قبل أن يكون لها قانونٌ من خلال حماية الملكية الفكرية، لذلك فإننا إذا تلمسنا ذلك المُصْطَلحَ في كتبِ المتقدمين والمتأخرين سنعي أن السَّرِقَاتِ لها تاريخٌ طويلٌ في العالمِ العربي وأيضاً الغربي بلْ ومنذُ زمن الإغريق وحتى الآن، ولكنَّ صُعُوْبَةَ تلك السَّرِقَاتِ في سَرِقاتِ المعاني والأخيلة والفكرة. والحديثُ عن السَّرقاتِ الأدبيةِ كثيرٌ ومتشعبٌ، وهناك مؤلفاتٌ ضَخْمَةٌ في ذلك، ولكن ما يهمنا هنا أنْ نؤكِّـدَ على أن تلك السَّرِقَاتِ تَسْتَدعي البحثَ في النَّصِّ لتستكشفَ هل بالفعل هذا النَّصُّ مَسْروقٌ أم لا؟ وهل هناك أبياتٌ شعرية أو نصوصٌ نثرية بعينها مأخوذة من آخرين أم لا؟ وكذلك في الرسومات المختلفة، وحين نبحث في ذلك، فالأمر يحتم علينا المقارنة بين القديم والحديث، الأمر أيضاً الذي يجعلنا نخوضُ غِمَارَ التَّدقِيقِ والمقارنةِ بين النَّصَّيْنِ، بمعنى فحص النَّصَّيْنِ فَحْصاً جيداً للتأكيد على السَّرِقة مِنْ عدمه، وبهذا الشَّكل تصبحُ السَّرِقَةُ طريقاً للولوج إلى النَّـصِّ، وعتبة من عتباته؛ لأنَّها تعطينا تأشيرةً للدخول إليه، وحينَ نعلمُ أنَّ هناك نصًّا مَسْرُوقاً نبحثُ في هذا النَّـصِّ من خلال إعمال بعض القوانين الخاصة بالسَّرِقَاتِ الأدَبِيَّةِ؛ لنتعرف إذا ما كانَ النَّصُّ بالفعل مَسْرُوقاً ومنسوباً إلى آخر، وليس له، وهل هذه السَّرِقَةُ كانتْ في عهد الذي سُرق منه، أم جاءت بعد وفاته، وهنا ندخل إلى قضية الانتحال، وما ذكره الدكتور طه حسين جديرٌ الآن بأن نعيده، وكيف أنَّ هناك أشعاراً قد تمَّ انتحالُها ونسبتها إلى آخرين، وما خلف الأحمر علينا ببعيد، وحين نبحث في تلك السَّرقاتِ بالتأكيد سنغوص في أعماق النَّصِّ، سواءً أكان النَّصُّ المَسْرُوْقُ والمنسوبُ إلى غيرِ صاحبه أم الأصل، وفي جميعِ الحالاتِ، فإنَّ تلك السَّرِقَاتِ وتعقبها تُفضِي بنا دونَ أدنى شك إلى المعرفة.
وأمر السَّرِقَاتِ يَسْتَدْعِي عَـدَداً من المُصْطَلَحَاتِ التي تحتاج إلى دِراسَاتٍ عديدةٍ، وبالفعل هناك دراساتٌ في ذلك، ولكن ما نراه الآن من أمرِ السَّرقاتِ يحتاجُ المَزِيدَ منها، ومنْ تلكَ المُصْطَلَحَاتِ التي تتداخلُ مع مُصْطَلَحِ السَّرِقَاتِ الأدبيةِ أو الفنيَّةِ، التي يجب التفرقة بينها وبينَ السَّرِقَةِ الحقيقية، لأنَّ هناكَ دِرَاسَاتٍ عديدةً في هذا الشأن تأكيداً على أنَّها بعيدةٌ عن السَّرِقَةِ، كما في "تداعي المعاني والأفكار" وهذا الأمرُ يجرُّنا إلى القولِ بأنَّ هناكَ إشكالياتٍ عديدةً تُطرحُ، نَحْوَ مُصْطَلَحِ التَّناص، وهل التَّناص يعتبرسَرِقةً؟ لأنَّ التناص يستدعي نصًّا آخر، من خلالِ التَّلاقِي الفكري والإبداعي، أي أنَّ هذا المُصْطَلَحَ قد يَظْلِمُ صاحبَه الحديث؛ لأنَّه يشتركُ مع القديم في معنى بعينه، وفضلاً عن مصطلح التناص، فإنَّ هُنَاكَ مُصْطَلَحَاتٍ أخرى تدخل من قريب أو بعيد تحت السَّرقاتِ أحياناً نحو "التأثير والتأثر" كما الحال بين الشَّرق والغربِ في أمور عديدة، بمعنى آخر حين نتناول الحديث عن "الكوميديا الإلهية" لدانتي الإيطالي، هل نعتبر ما قام به سرقة حقيقية من "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، وهل نعتبر ما قام به المعري سرقة من كتاب "التوهم" للمحاسبي، وهل نعتبر ما قام به المحاسبي يعتبر سرقة من فكرة الإسراء والمعراج بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟. وهل تأثر الدكتور محمد مندور بكتاب "نماذج بشرية" لجاك كالفيه، وهل أخذ المازني بعض أشعاره من توماس هود كما قيل، وإذا عدنا إلى الوراء سنجد أسطورة أوديب القديمة التي ألفها هوميروس في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد في الأوديسا ومعظم الشعراء الذين جاءوا بعده قد كتبوها مرة ثانية، بسبب إعجابهم الشديد بها نحو شعراء اليونان الكبار أسخيلوس، سفوكليس ويوربيدس وغيرهم، وأضافوا إليها وحذفوا منها، فضلاً عن الشُّعراء الفرنسيين الذين فتنوا بها نحو كورناي الذي كتب قصة تمثيلية لأوديب أثارت حفيظة الكثيرين، فهل نعتبر ذلك سرقة؟ كل هذه قضايا يَطرحها الفكر، فهل تدخل في باب السَّرقات أم في باب التأثير والتأثر. ولكنَّ السَّرقاتُ من الأمور الظاهرة للعيان، النص بأكمله منقول أو جزء منه فهذه سرقة، والفكرة نفسها تعتبر سرقة، إذا كانت قد نقلت كما هي دون زيادة أو نقصان، والشاهد هنا في هذا المصطلح أن لولا وجود تلك السرقات ما سمعنا ضجة كبرى حول تلك الأعمال من الفن والأدب والعلم، وحين أسمع أن هناك سرقة في موضوع بعينه فاضطر إلى تتبع ذلك الموضوع أي أن السرقة كانت سبباً في قراءة هذا الموضوع بالضبط مثلها مثل العنوان أو الإهداء أو الخواتيم والتذييلات خاصة بعتبات النصوص. وقد عرض الدكتور محمد مصطفى هداره في كتابه"مشكلة السرقات في النقد العربي" العديدَ من الدراسات التي تناولت تلك القضية المهمة والخطيرة في الوقت نفسه، وعرض للكتَّاب الذين رصدوا بعض مظاهر السَّرقة نحو أحمد الشَّايب في كتابه "أصول النقد الأدبي" و"النقد المنهجي عند العرب" لمحمد مندور، و"نقد الشعر" لقدامة بن جعفر، و"الوساطة بين المتنبي وخصومه" للقاضي الجرجاني والموازن بين الطائيين للآمدي و"عيار الشعر" لابن طباطبا العلوي. "ولعل هذا الموضوع كان من أبرز الموضوعات التي عالجها النقد العربي في قديمه وحديثه؛ إذ إنَّ من أهم الأهداف النقدية الوقوفَ على مدى أصالة الأعمال الأدبية المنسوبة إلى أصحابها، ومقدار ما حوت من الجدة والابتكار أو مبلغ ما يدين به أصحابها لسابقين من المبرزين من الأدباء من التقليد والاتباع" . وهذا ما تلح عليه الضمائر الحية التي تدعو إلى احترام فكر الآخرين وعدم التعدي عليه بالسطو فقد تعبوا فيه وسهروا من أجله الليالي وواصلوا النهار، وهو ما صرخ من أجله الدكتور بدوي طبانة حين قال: "فالعمل على انتزاع الفكرة من منشئها ومبدعها جنايةٌ، لا تقل عن جناية سلب الأموال والمتاع من صاحبها ومالكها، والمفكرون رأس مالهم في الحياة هو أفكارهم التي اهتدوا إليها بعقولهم المنيرة وبصيرتهم النافذة وقريحتهم الوقادة وتجاربهم الكثيرة، وبسببها أصابهم الكد والإرهاق، وسهر الليالي وواصلوا بها النهار لينفعوا بها الإنسانية، وكل حظهم من هذا العناء أن يكون لهم مجدٌ يذكرون به في حياتهم، ويخلدهم بعد مماتهم" . وقد عرَّف الدكتور هداره السرقات بقوله: "السَّرقةُ- مهما كان موضوعُها- شيء مستكره، ولفظٌ بغيضٌ، تُنكره الأسماع، وتزدريه النفوس، وتوضع من أجله القوانين لتردع أولئك الذين يسلبون حقوق غيرهم وما يمتلكون" ويورد لنا الدكتور طبانة في كتابه شاهداً أولياً على سرقة بيت من الشعر وهو الأمر الذي جعل الناقد يبحث في تلك القصيدة من أولها إلى آخرها لعله يجد هناك سرقات أخرى "ولما قال بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتكُ اللهجُ
أخذه دعبل بن علي الخزامي فقال:
من راقــــــــــب الناس مات غمـــاً وفاز باللــــذة الجـســـــــــــورُ
ولما سمع بشار بيت دعبل ثار وقال ذهب ابن الفاعلة ببيتي" وهنا يتأكد قهر المسروق عما جادت به قريحته، وأيضاً نرى أنَّ الرواةَ قد ذكروا "أن بيت امرئ القيس:
وقوفاً بها صَحبي عليَّ مطيَّهم يقولونَ لا تَهْلِك أسى وتَجمَّلِ
قد أخذه طرفة بن العبد فقال:
وقُوفاً بها صَحْبي عليَّ مطيَّــهُم يقُوْلُون لا تَهْلك أسى وَ تجـلَّدِ
فلم يغير في البيت إلا قافيته" . والسُّؤال الذي يطرح نفسه، هل هناك جدوى من دراسة شعرية السَّرِقَاتِ الأدبية والفنية والمصنفات المختلفة؟ بمعنى أدق، هل ستعود بالنفع على المبدعين تلك الدِّرَاسَة؟ حيث إنَّ هذا الأمر بات يؤرِّقُ الكثيرين خاصة في الأبحاث العلمية التي يتقدم بها البعض للترقية وما شابه ذلك، نقول: إنَّ دراسةَ الشِّعريةِ في تلك السَّرقات والعلاقة بين الشيء المَسْرُوقِ والسَّارق لتخضعان إلى التحليل النفسي للأدب، وهنا لا بد من معرفة الدوافع النفسية والاجتماعية لتلك السَّرقات، كما أشار إلى ذلك الدكتور مصطفى هداره في دراسته عن السَّرقات الأدبية، بل إنَّ هناك دراساتٍ بعينها، وإنْ ذكرتْ أنها ستبحث الدوافع النفسية لذلك، فإنها لم تفعل مثل دراسة دكتور بدوي طبانة، دون الخوض في الأثر الذي يترتب على ذلك، وإذا كان الأقدمون قد وقفوا على ما هية السَّرقاتِ، فقد أتعبوا أنفسَهم في البحثِ والتنقيب عن الشيء المَسْرُوق نفسِه ليؤكدوا السَّرقة، ولكننا الآن نتمنى أنْ نربط تلك السَّرقات قديمها وحديثها برباط الشِّعرية في دراسات مختلفة، من أجل الخروج بنتائج مرضية تكون كفيلة لردع أولئك المتسولين الذين لا يكفون عن تلك الفعلة الشنعاء، وذلك من أجل الارتقاء بالفنون في مختلف مناحيها.
أما الدكتور طه حسين فقد أبلى بلاءً حسناً طبقاً للمنهج العلمي الذي توخاه حين أنكر معظم الأشعار المنسوبة إلى عصر ما قبل الإسلام، حتى لو كان متأثراً في هذا الطَّرحِ بمرجليوث، حيث عبَّر طه حسين عن فكرته بوضوحٍ تامٍ منذ أن بدأ يخط هذا الكتاب "نقول إنَّ هذا الشِّعرَ الجاهليَّ لا يمثل اللغة الجاهلية. ولنجتهد في تعرُّف اللغة الجاهلية هذه، ما هي؟ أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أنَّ شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه؟" . وكان طرح طه حسين في هذه القضية الخطيرة ليعتبر أقوى عتبة نصية ندخل من خلالها إلى عوامل الشعر في العصر الجاهلي، فقد كان سبباً في إعمال العقل في هذا التوقيت، وقد لاقى ما لاقاه منذ أن صدر كتابه وحتى مماته، ويستشهد على ما يقول بما رسخ في الأذهان عن الاختلاف بين لغة حمير وهي لغة العرب العاربة ولغة عدنان وهي لغة العرب المستعربة، مستنداً في ذلك إلى قول الجاحظ "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا".. سأكتفي بذكر نموذج واحد عما سطَّره طه حُسين في هذا الكتاب عن انتحال الشعر "هناك قصيدةٌ ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة انتحالاً. وهي القصيدة البائية التي يُقال إن امرأ القيس أنشأها يخاصم فيها عَلقمة بن عبدة الفحل، وأن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلَّبت علقمة على زوجها. وأنت تجد القصيدتين في ديوان امرئ القيس وديوان علقمة. فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها:
خليلي مُرّا بي على أم جنـــــدب نقضِّ لُبانات الفؤاد المعذب
وأما قصيدة علقمة فمطلعه:
ذهبت من الهجــران في كل مذهب ولم يك حقَّــا كلُّ هذا التجنُّب
ويُنكر طه حسين هاتين القصيدين بالمرة لصاحبيهما فهي ليست لامرئ القيس ولا لعلقمة الفحل وينسبهما إلى ما بعد ظهور الإسلام، وينهي حديثه عنهما بقوله: "وما نظن إلا أنَّ هاتين القصيدتين وأمثالهما أثرٌ من آثار هذا النَّحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة" .لذلك فإن السَّرقات الأدبية وبفضل طه حسين في استجلاء معالمها وتبيان مشاربها أصبحت عتبة نصية كبرى على الشعر الذي سبق ظهور الإسلام، ونعتبرها كذلك من عتباتِ النصوص لسببين أنَّ الحديثَ عنها خارجياً ما هو إلا عتبةٌ نصية للنَّـصِّ نفسه تستدعي قراءة العمل، ومعرفته من أوله إلى آخره، ومن هنا تصبح عتبةً لدخول عالم النَّـصِّ، والسَّبَبُ الآخر البحث في النص المَسْرُوقِ منه أي الأصل، وهنا نتعرفُ على نصَّينِ أحدهما أصليٌّ والآخر مسروقٌ منه.
وفي هذه الأيام نجد هناك شيئاً قد تأكد الكتابُ من سرقته، وهو أنَّ يوسف زيدان قد أخذ رواية "عزازيل" بفكرتها من رواية تشالز كنجسلي"أعداء جدد بوجه قديم" وغيرها من السرقات، وما حدث مؤخراً بين الشاعر عبدالستار سليم والشاعر هشام الجخ إلا دليل على السرقات المتعددة، وقد أنصف القضاء فيها عبد الستار سليم وأثبت أن الأشعار ملك له. وهناك العديد من تلك الشهادات على ذلك سواء أكانت في الفن وسرقة الألحان واللوحات الفنية، ومعظم المصنفات الفنية التي تتعرض للسَّرقات، من هنا نقول يجب على وزارة الثقافة أن تضع قانوناً جديداً تغلظ فيه أولاً عقوبة سارق الفكر، فضلاً عن إيجاد آلية كي يكون لدينا مرصدٌ حقيقي للسَّرقات في الوقت الحاضر. وعليه تصبح السَّرقاتُ بأشكالها كافة عتبةً من عتباتِ النصوصِ التي يجب البحثُ فيها.