د . نزهة خلفاوي تكتب: جوهر الشّعر وملحمة الإنسان في ديوان «العبّاسة» لمحمود حسن

  • جداريات 2
  • الأربعاء 27 مايو 2020, 6:03 مساءً
  • 1391
د. نزهة خلفاوي

د. نزهة خلفاوي

أوّل ما فكّرت به وأنا أقف على عتبات هذا الدّيوان محاولة الولوج إليه، هو كيفية استثمار العدّة المنهجية التي ستعينني على فتح مغلقاته، دون الانزلاق في فخ التّنظير؛ مخافة أن تُلقي تلك العدّة بأثقالها على النّصوص، فتجعل بنيتها تتصدّع وتنهار من بين يدي. ولأجل ذلك رحت أسير بخطى هادئة حذرة، وأنا أقترب منها في قراءاتي الأولى لها، ملتقطة ما أمكن من الإشارات التي قد تضيء لي هذا العالم الشّعري، فأقدّم له قراءة سلسة تستند إلى مرجعية معرفية دون أن تغرق فيها . 

إذن؛ متّكئين على المقاربة السّيميائية في القراءة الشعرية، ومعتمدين ما أمكن من أدوات التّحليل التي تتيحها السيميائيات الإيحائية (يمسلف)، نقترب من العبّاسة، يقودنا الحدس بوجود شبكة من العلاقات المائلة بين المدلولات الأولى (التّقريرية)، والمدلولات الثّانية (الإيحائية)، لنلج الدّيوان نصّا؛ تتّسق قصائده ضمن خيط شعريّ واحد وخفيّ، يلقي بنا إلى صلبه لتمارس علينا لغته المتميزة سحرها، وهي تمنحنا ذلك الالتحام بالمتعة أثناء الغوص في مستوياته العميقة، حيث تتولّد المعاني المقصودة، بعد أن تتضح طبيعة العناصر الظاهرة بالنسبة للسّياقين الزماني والمكاني، لنفتح في نفس الوقت تلك المساحات اللّامحدودة في المستويات الجانبية، حيث تتحدّد طبيعة العلاقات بين مختلف العناصر التي تحرّك المتن الشّعري، فيمنحنا المستوى الأوّل (العميق) مدوّنة من المدلولات، تنزل بنا إلى البنى العميقة وتثبت أقدامنا فيها، بينما يمنحنا المستوى الثّاني؛ نظاما من الفوارق والانزياحات التي تتجدد وتتبدّل كلّما اختلفت زوايا النّظر، ما يجعل النّص دائم الحركة، يواصل إنتاج معانيه التي لا تنتهي عند قارئ واحد. ولعلّنا نخرج في قراءتنا المتواضعة هاته عن المسارات المنضبطة التي تنتظم الشّعر –بمختلف تجلياته-، إلى مساحات جانبية مفتوحة على اللّامحدود، أين تتحرّك الطّاقات الإبداعية لشاعرنا، والتي تُخرج بموجبها الكلمات من جوف القواميس مفتّتة جمود معانيها، وتُخرج الأحداث- بموجبها أيضا- من متاهات التّاريخ، لتبسطها بعد ذلك أرضا خصبة تتكاثر فيها الدّلالات وتتنامى، مانحة هذا المنتج الشّعري القدرة على الخلق الفني المتميّز . 

1 _ قراءة في عتبات الدّيوان

لعلّ الوقوف على العتبة اللّسانية الأولى للدّيوان، وهي العنوان: "العبّاسة" ،سيجعلنا نشعر بالارتباك أمام هذه البنية المتكئة على شحنات دلالية مكثّفة،كثافة إيحاءات عيون المرأة في الصّورة على غلاف الدّيوان، والتي تختزل أسرار الأنثى المستترة خلف الوشاح العربي، كما تستتر الدّلالات العميقة لهذا النّص، خلف كلمة تختزل صيغتها المؤنثة سحر الشّرق، وكلّ تلك الهالة المحيطة بالعصر العباسي. 

"العبّاسة" إذن؛ كيف يمكن أن نفكّ شفرات هذا المكوّن اللّساني، لنمسك بخيط قد يقودنا إلى نواة هذا العالم الشّعري، علّنا نستطيع بعد ذلك قراءة شاعره. سنبحث في العتبات الخلفية عن عنصر ثان؛ فالعنصر في انفراده فارغ من المعنى. ولنتأمل العبارة التي ذيّل بها محمود حسن قصائده: "معظم ما كتبه الشّاعر هنا أملاه عليه جعفر في رؤيا طويلة استيقظ بعدها وكتب". سنقف هنا عند الكلمات المفاتيح: رؤيا، أملاه، معظم: 

- تدلّ لفظة "رؤيا" على ما يرى في النوم، بعيدا عمّا يفرضه الواقع، والرّؤيا الصادقة هي العلامة الأولى لكشف الغيب، وقد تتأتى للصّادقين والمؤمنين كما تأتّت للأنبياء والرّسل. فنحن إذن أمام نصّ كاشف لما هو غير معروف أو متداول. وانطلاقا من هذا؛ يبدو أنّ ملحمة العبّاسة - المعروفة والمسجلة في كتب التّاريخ التي طالما كتبها الغالب- ليست الغاية العميقة لهذا العمل الشّعري، الذي يفتح نصّه لصوت الذّبيح المغلوب.

- وتدلّ لفظة "أملاه" على أن الرّؤيا كانت صوتية، همس بها جعفر في أذن شاعرنا فقام يكتبها/ يرسمها مشاهد شعرية نابضة، تحاكي مسرح الحياة، وتكشف المسكوت عنه منها؛ 

- وإن كان "معظم" ما كتب في الدّيوان، أملاه جعفر لشاعرنا في رؤياه، فقد كان لموقف هذا الأخير منه مساحة من النّص، إذ لم يكتف بتجسيد رؤياه نصّا شعريّا فائق الرّوعة، بل ضمّن هذا النّص مواقفه من مختلف القضايا ذات الصّلة . 

ونحن ننهي قراءة الجملة التي ذيّل بها الشّاعر قصائده، سنحمل لفظة "جعفر"، ونعود بها إلى العتبة الأمامية (العنوان)، نرسم خطّا مائلا ، ونجعلها تستند عليه إلى جانب "العبّاسة" . 

العبّاسة/ جعفر 

هكذا؛ ستبدأ هالة العصر الذّهبي، وسحر العيون الشّرقية بالتّصدع شيئا فشيئا، كلّما تسلّل إليها صوت جعفر المبحوح، لنجد أنفسنا أمام حقيقة الإنسان والتّاريخ، تحيط بنا الأسئلة، ويشركنا الشّاعر في قلقه وتفكيره ويقينه، وقد اختار لنا هذا النّص عتبة خلفية أخيرة للدّيوان:

"لكن يعبث في تاريخ الأمة من يعبث  

يندسّ الحبر الأسود في القرطاس الأبيض 

والتّاريخ الأسود في التّاريخ الأبيض 

وتباع الذّمة والتوقيع يزوّر والخطّ 

ويهجّن عرق عربيّ والسّبط 

لا بدّ وأن يلعب فأر التّاريخ إذا غاب القط " 

ليُسلّمنا بعدها لكل تلك التّراكيب الفعلية داخل المتن، والتي تجعلنا نتحرّك بين مدّ الأسئلة وجزر الأجوبة. لكنّنا لن ندخل المتن ونحن في حالة ضياع؛ إذ يمكننا بعد قراءتنا لعتباته أن نمسك بالإنسان والتّاريخ ثيما كبرى تُشكّل أنوية النّص، وتحرك بناه العميقة والسطحية، وتقودنا إلى مغلقاته . 

2 _الثّيم الكبرى؛ وتشكّل البنى العميقة والمساحات الجانبيّة لجوهر النّص: 

سنقصر قراءتنا -في هذا المقام- على التقاط تمفصلات ثيمتي الإنسان والتّاريخ، المتجلية في البنى السّطحية لهذا المتن الشّعري، ليتسنى لنا بعد ذلك إقامة العلاقات المناسبة بين تلك التّمفصلات، وتحديد القيم المتمثّلة في صلبها، ثم ترتيب تلك القيم، بحيث يسمح لنا الانتقال من قيمة إلى أخرى، ببناء شبكة من العمليّات التي نتحول فيها من قراءة ظاهر النّص إلى ملامسة جوهره. ويبدو أنّ العبّاسة ومن خلالها قتل جعفر والتنكيل بالبرامكة (الإنسان) تمثّل محور البنية السّطحية للدّيوان، والتّاريخ المزوّر منتهاها: 

1 _ 2 ثيمة الإنسان: 

تحيل أسماء الشّخصيات العباسية التي تصدّرت الدّيوان وقصائده، إلى مختلف العلاقات التي قد تربط الإنسان بالإنسان، وسنقوم بتحديد تلك العلاقات، وباستنباط مختلف القيم المتمثلة في صلبها، نزولا إلى البنى الأكثر عمقا في هذا الدّيوان، فمن العبّاسة إلى جعفر إلى الرشيد إلى يحيى إلى الخيزران إلى عصماء إلى برّة إلى زبيدة إلى الوزير يعقوب إلى أبي العتاهية تتعدد العلاقات الإنسانية بين أخوة وأبوة وأمومة وصداقة وزواج وحب..، وتتمثل في صلب هذه العلاقات مختلف القيم الإنسانية من حب وواجب وتضحية وإباء ووفاء وعدل وشرف، يقابلها الجشع الإنساني الذي يطغى بموجبه الطمع والحقد والأنانية والكيد والظلم، فيختلط بياض الإنسان بسواده، وتجتاح المتناقضات المشهد: 

" في القصر خمور ونساء عارية، وفجور، وغناء  

وسجود وقيام وصيام وقراءة قرآن وبكاء 

في القصر العزّة والذّلّة 

وملابس متّسخات وأناقة حُلّة 

في القصر شياطين رسل وملائكة خبثاء"  

وإن كان اسم العبّاسة يتصدّر الدّيوان وفي ظِلاله جعفر الذبيح، لتتلون النّصوص بألوان ملحمة خطّها الجبروت، حين أذلّ الجسد الإنساني وجعل منه ملهاة تؤنس فراغه ومجونه، ليخلّدها الحب حين تمرّد على القيد وأعاد للجسد إنسانيته وروحه، قلنا إن كانت العبّاسة وملحمتها تتصدّر الدّيوان، فإن هارون هو محرّك عناصره التي تدور في فلك شخصيته، تعرّيها وتعري من خلالها قبح الإنسان وجماله، عوالمه المنيرة والمظلمة، وكيف تكون ملهاة الفرد الواحد مأساة أمم في الحين وبعده: 

"في رحلة صيد برّية 

بين المأساة وملهاتك" 

ولنقف هنا أمام الكلمتين: المأساة/ ملهاتك، نتأمل ذكاء شاعرنا في الرسم باللغة، حين يمزج الألوان ولا يخلط بينها، وهو يجاور بين كلمتين بينهما علاقة تقابلية خلافية، تظهر قيمة الواحدة منهما بالأخرى، وبذكاء يستعمل كاف المخاطب لتعريف الثانية (ملهاتك) مشركا صاحبها (هارون الرشيد) في الرسالة التي تحمل مشهدا من صنعه في الأول والأخير؛ حيث الجزء الضّاحك منه يخصّه وحده، بينما يعرف الثّانية (المأساة) بألف ولام تشمل المسافة بينهما كل عناصر المشهد/ الملحمة، وكلّ من ألقت بنيرانها عليهم بعدها ليشملهم البكاء والعويل: 

المشهد يا هارون الآن وبعد 

دخول السيف إلى غمده 

رجل ملك الدنيا وأخوه ذبيح بين 

يديه 

والشعب الأعزل شعبان 

وملابس سود وامرأتان 

والمتأمل للعلاقات الإنسانية التي تربط بين مختلف الشّخصيات، التي تتحرك داخل المتن الشّعري ومآلها، سيلمس انهيار كل القيم الإنسانية أمام الرّغبة في السّلطة، والطّمع المتجذّر في الإنسان في الكرسي: 

"نحن الإخوة والأصهار وأصحاب الدّين الواحد والحرف الأزلي 

لكن إن ظهرت ثمّة أطماع في الكرسي 

يشنقنا الشيخ المفتي، والجنرال القائد، والشّعب المتسلّل في الميدان الكاذب 

والعرق النّافر 

والدولار العربي

والمخيف أثناء قراءتنا تاريخ الإنسان، أن أقدس الرّوابط الإنسانية، وأكثرها عمقا، تنهار هي الأخرى من أجل العرش ومن أجل السّلطة، فيقتل الأبناء آباءهم بل وتقتل الأمّ ابنها: 

" من أجل الدولة والهيبة والسلطان وكرسي الحكم العباسي 

ضيعتك يا ولدي 

..... 

ملعون هذا الكرسي القاتل 

ملعون تاريخ دموي يأكل أكباد الأبناء" 

العبّاسة تعرّي حقيقة الكرسي أيضا، وكيف يصنع الجبروت، كيف يمتلك الحاكم البلاد والعباد؛ عبيدا كانوا أم أحرارا، مسحوقين من عامّة الشّعب أم أمراء وذوي شأن، والعبّاسة أخت الرشيد أكبر تجل لامتلاك الإنسان للإنسان، وإذلال الجسد، تحقيقا لنشوة عابرة، والعبّاسة أيضا أكبر تجل لانتصار الإنسان لجسده وروحه. العبّاسة رمز الحياة والموت معا، رمز الضّعف والقوة، رمز الهزيمة والانتصار، كيف لا وهي الزّوجة المحرم عليها زوجها بأمر السّلطان، والأم المحرّم عليها ابنها خوفا من بطش السّلطان، والأخت التي تتجرّع حب أخيها لها علقما. العبّاسة مأساة الإنسان وملهاة السّلطان، وقد اختار شاعرنا أن تكون الزّاوية التي نطل من خلالها على خبايا قصر الرشيد . 





2 - ثيمة التّاريخ 

يمكن اعتبار "العبّاسة" ومن خلفها "جعفر" إشارة تاريخية مرجعية، تحيل في ظاهرها إلى الزّمن الماضي (العصر العباسي بكل الأحداث التي شهدها)، ليتوّزع عبرها الحاضر والمستقبل؛ والحاضر والمستقبل هنا مفتوحان على الأمكنة /باب المندب، العقبة، صنعاء، بغداد، دجلة والنيل.../، ما يجعلنا نقف على توليفة شعرية غاية في الذكاء، تنطلق من مأساة خلَت، لتقف على مأساة تعيشها الأمة اليوم، حيث الفتنة واحدة، واليد الطامعة العابثة في التّاريخ واحدة: 

" بين وقوع الفوضى وكتاب البيعة شعرة 

لا يدرك قاطعها مأوى لعشيرته أو يأمن ملتجأه 

من يعبث في البيعة يعبث في الجلباب الساتر يفضح عورات مختبئة 

ويثور الشعب الميت من مائتي عام، والجند المتخاذل والدبابات الصدئة 

لن يطلق جندك نحو قلوب الأعداء هنالك نصف رصاصة 

لكن يغمد في قلبك سيفه " 

إنّنا أمام قدرة شعرية وجمالية هائلة، تمزج بطريقة سحرية بين الإحداثيات الزمانية والمكانية المتحركة بين الماضي والحاضر، والمفتوحة على المستقبل، لتطرح الأسئلة وتعرّي زيف التّاريخ، وتفضح جشع الإنسان وآليته، حين يتجرّد من قيمه (قيم الحق والخير والجمال)، في سبيل السلطة مهما كان شكلها، فتُذبح الإنسانية، وتُحرّف مفاهيم القيم، ويُزوّر التّاريخ، وتتحدّد المواقف بحسب المصالح، ويميل الشّعراء إلى الزّهد عن الحق، يخشون إرهاب "العملاء المزدوجين وغدر البصاصين"، و"لصوص الثورات المبتورة" 

" لكن يعبث في تاريخ الأمة من يعبث 

يندسّ الحبر الأسود في القرطاس الأبيض والتّاريخ الأسود في التّاريخ الأبيض 

وتباع الذمة والتوقيع يزور والخطّ " 

وبشعرية رصينة، متمردة على "جمود الشّعر"، محتكمة إلى جوهره، ينسج شاعرنا نصّه بناء لغويا أنيقا؛ قويا جزلا متى ما كان ذلك ضروريا، ورقيقا ناعما متى ما أصبح ذلك مستلزما، ينتقي عناصره، ويقتصد ما أمكن فيها، ليطلق بعدها العنان لمعانيه، يلتقطها المتلقي كلّما أمعن، فنراه يزرع إشارات لسانية ذات مرجعيّات تاريخية، تخطف قارئها إلى الماضي الذي يجسّد الدّلالات العميقة المضمرة خلف تلك البنى السّطحية، ثم تعيده قبل أن يرتدّ إليه طرفه : 

" لكن إن شبّ الرجلان 

وارتكب الأول معصية الذبح 

الأولى 

جاء غراب الأرض كطاووس ليعلم 

هارون طقوس الدفن ويفقأ عين 

الإنسان " 

وكأننا بالشّاعر وهو يبث مثل هذه الإشارات، يحاول أن يختصر المسافة على المتلقي، فلا يرهقه بشرح ما شرحه التّاريخ قبل آلاف السنين من جهة، ومن جهة أخرى؛ يخرج به من دائرة المستهلك السّلبي، الذي يكتفي بتذوق جمال النّص وشعريته، إلى مساحات جانبية يتحرّك داخلها بفكره بين مختلف الإحداثيات والعناصر، ليستنتج ويحكم بنفسه، مشركا إياه في توليد المعاني، ضامنا بذلك استمرارية الحركة داخل النّص . 

والتّاريخ في العبّاسة ليس يقينا مطلقا، كما يريده المؤرخون والغلبة عبر العصور، بل هو مادة للحيرة والشّك والسّؤال المتجدّد والمتعدّد، بتعدّد زوايا الظل القريبة والبعيدة عن بؤره المركزية، ودوائره الهامشية. والحاضر في العبّاسة امتداد للتّاريخ، وارتداد لكل تلك الهزّات في الماضي، ولا مجال لمستقبل أكثر إشراقا وإنسانية، إلّا بإعادة قراءة التّاريخ بموضوعية، وبسماع كل الأصوات؛ قويّها وضعيفها، قريبها وبعيدها، وقوفا على مواطن القبح والسوء قَبل مواطن الحسن، وهذا ما جسدته الإلياذة الشّعرية التي بين أيدينا، وهي تقارب شخصية هارون الرشيد في جانبها الإنساني . 

  العبّاسة.. جوهر الشّعر 

تعدّ العبّاسة انتصارا لجوهر الشّعر، وثورة على التّصنيفات، ففي العبّاسة يلبس النّص روح شاعره، ويتلون بموجات مشاعره، ويشدّ عضده بمواقفه الثابتة الراسخة. وفي العبّاسة تتجلى القصيدة واثقة، أنيقة غير مثقلة بكل ما فيه تكلّف، تخفض اللغة فيها جناحيها للصورة والمعنى، ولا تخنقهما، وفي العبّاسة اقتصاد في اللفظ، وتكثيف للدّلالة، وإطلاق للإيقاع. 

في العبّاسة؛ يتمرّد الشّاعر على اللّغة/القصيدة بوصفها نظاما، وتتمرد اللّغة نفسها على ذاتها، ليولد الإبداع، ويخلق النّص المتفرّد القوي بأسسه المتينة، والمدهش برؤيته المتجدّدة. والعبّاسة ثورة: 

" لا يمكن أن يزهد شعر يا ولدي أو شاعر 

الشّعر هو الثورة.... 

مسكين من يستبدل قوت بنيه بمحبرة ثكلى 

والحرف الصامت يشوي أمعاءه 

وطن لا يتهجى أحزان قصيدته 

يغرس سنبلة لا تصنع خبزا ويكرر أخطاءه " 

ففي زمن تملؤه رائحة الموت وأنين الأطفال، وتحجب شمس سمائه الخيانات، ويصفق فيه المثقّفون والشّعراء للكذب؛ خوفا أو طمعا أو عجزا، مازالت ثلة تزرع القصيدة كلمة حق، وقبضة نور وسط العتمة . 

وفي زمن الحرب؛ حرب السّيف، وحرب الدولار، وحرب الجوع، وحرب الدين، وحرب الدبابات، وحرب الإعلام، وحرب الطوائف والأعراق، يكفر محمود حسن بهذه الآلة الدّموية وبصُنّاعها : 

"كل حروب الدنيا داعرة، إن قام ولي أو ملك جبار طبقي 

الحرب صنيعة منحرف، أو تلميذ فاشل 

أو رجل تملكه عقدة أوديب، أو لوطي شبقِ 

الحرب جهاد إن دفعت، لكن إن تطلب فقراصنة المرتزق" 

ومن الموقف الواضح والإنساني من الحرب، إلى الموقف الثابت من مفهوم الدّولة، إلى الموقف من الطائفية النتنة والتمييز العرقي، يلملم شاعرنا خيوط قصيدته لينسجها على وزن واحد، إيقاعه الإنسان والقيم، فيتجاوز بالنّص نظامه وواقعه، إلى واقع آخر موازٍ يأمله . 

وبعد كل ما كتبنا سابقا؛ نستطيع القول إنّ العبّاسة ليست إعادة تشكيل فني وجمالي للواقع –في ماضيه وحاضره- ، وليست حتى كشفا لزيف التّاريخ وأكاذيبه 

"ما جئت الآن لأكشف تاريخا كذّابا، أو أفضح سيّده" 

إنّها كشف لهواجس تسكن شاعرنا، وتحرّك أسئلته وحلمه، إنّها الدّعوة للبحث والتّأمل والإصغاء، وهي الدّعوة للخروج من الإطار. والعبقرية أنها دعوة ثلاثية الأبعاد، تثبّت نظرنا على الثيم الكبرى وتنتقل بنا بحركة لولبية نحو البنى العميقة، حيث القيم المتشبع بها الشّاعر؛ قيم الحق والخير والجمال بكل تفاصيلها، وفي نفس الوقت تحرّكنا أفقيا نحو الخلف إلى الماضي، تعري أخطاءه، وتستلهم منه العبر، ثمّ نحو الأمام إلى الحاضر والمستقبل، ترفع القناع عن حقيقة الفتن، وترسم المسارات الصّحيحة للخروج منها، وفي نفس الوقت؛ تعزف أنفاسنا نبضا على إيقاع قصيدة تنظم شاعرها، فتتوّج إنسانيته قيمتها الفنية والجمالية . 

هكذا؛ تجعلنا العبّاسة نؤكّد مجدّدا أنّنا أمام شاعر يملك ناصية الشّعر، تسري في دمه جينات القصيدة العربية أصيلةً، لكن متجددة منذورة للبهاء والدّهشة والعمق، عمق هذا الشّاعر الإنساني، الذي يملك من الوعي والثّقافة المؤسّسة معرفيا، ما يتيح له استثمار ما يريد من الوقائع التّاريخية، والأحداث المتسارعة في الزّمن الحاضر، ليصنع إحداثيات زمانية وأخرى فضائية، وخطوط طول وعرض جديدة، يبني من خلالها عالما شعريا، يسير بالمتلقي بثبات نحو القيم المضمرة، خلف مواقف الشّاعر التي لا يتردّد في الإفصاح عنها، مستندا إلى نزعته الإنسانية؛ التي تحترم الإنسان وحقّه في الحياة مهما كان عرقه أو معتقده، ومن خلال كل ذلك يبني العالم الذي يرجوه للإنسانية التي أهدى لها ديوانه . 


د. نزهة خلفاوي

رئيسة فرقة اللسانيات والدرس البلاغي بوحدة البحث: واقع اللسانيات وتطور الدراسات اللغوية في البلدان العربية، الموطنة بجامعة تلمسان/ الجزائر .


تعليقات