حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الدكتورة زينب أبو سنة
رحم الله (يوسف إدريس) الذي كان على وعيٍ بدورِ الأدبِ في السياسةِ والاجتماعِ والثقافةِ وعقائدِ الناسِ.
كان يؤمنُ بأن القصةَ هي الشكلُ الأمثلُ للتعبيرِ عن الجماعاتِ المغمورةِ، وعن المهمَّشينَ، فكان يكتبُ بتلكَ الرؤى النافذة عن الفلاحينَ والعمالِ والبسطاءِ المثقلةُ أرواحُهم بالألمِ، اللذين يبحثون في أعماقِ نفوسهِم على مخرجٍ وملاذٍ ويواجهونَ سلطةً لا تعرِفُ الرحمةَ.
عاشَ يوسفُ إدريس طوال حياتِه مثقلاً منشغلاً بتلك المنطقةِ الغامضةِ والشائكةِ التي تزدحمُ بأسرارِ التاريخِ وعمقِ التجربةِ الإنسانيةِ، وهي الصراعُ الدائمُ الذي تُمثِلُه العلاقةُ المعقدةُ بين أفرادِ الشعبِ المغلوبِ على أمْرِه والسلطةِ الظالمةِ. فجاءت قصصُهُ القصيرة سلاحًا نافذًا لمعرفةِ الحقيقيةِ، ومساءلةِ الواقعِ والبحثِ من خلالِ قصصهِ في آفاقٍ لحريةِ الإنسان.
وحديثي اليومَ عن رائعتِه القصصِّيةِ (حمَّالُ الكراسي) التي كتبها عام ١٩٦٨ في مجموعتِه الرمزيةِ في ملابساتِ ما بعد هزيمةِ ١٩٦٧، وقبل وفاةِ الرئيس جمال عبدالناصر.
وتستند نصوصه إلى (البورتريه) الذي يتحكم في الحكاية بامْتداداتِهِ - ( الزمانيةِ والمكانيةِ والدلاليةِ) - ونعرف جميعا أن صورةَ(البورتريه) تقوم على ثلاثةِ محاور أساسيةٍ جوهريةٍ وهي: (المفاجأةُ - الإثارةُ - والاستثناءُ أو المخالفةُ للمألوفِ) فتتداخلُ فيما بينها لتنتجَ صورةَ (البورتريه).
ويقول إدريس (السارد) في قصتِهِ (حمّال الكراسي) إنه رأى رجلاً يحملُ كرسيًا هائلاً، تراه فتظنُ أنه قادمٌ من عالمٍ أخر، ضخمٌ كأنه مؤسسةٌ ، واسعُ القاعدةِ ناعمٌ ، فرشُهُ من جلدِ النمرِ ومسانِدُهُ من الحريرِ.كرسيٌ متحركٌ ، يتقدمُ من تلقاءِ نفسِهِ وتكادُ تَخِرُّ أمامَه من الرعبِ والذهولِ، وتعبدُه وتقدمُ له القرابين.
ويكشفُ(الساردُ) من خلالِ سردهِ بأن المصريين قد ورثوا العبوديةَ والسخرةَ وأورثوهما لأبنائهم ولأحفادِهِم جيلا بعد جيلٍ، بل اعتبروهما حقٌ للحاكمِ عليهم...ربما ليس قناعةً منهم ولكنها قهرًا وجبرًا ، حيث لا حيلةَ
لهم إلا الرضى والخنوعِ. أَمَرَ (السارد) الرجلَ بإنزالِ الكرسي ، بعدما قرأ له ما هو مكتوبٌ على خلفيتِهِ وهو: (يا حمّالُ الكراسي، جاءَ الوقتُ؛ لترتاحَ ويجبُ عليكَ أن تجلسَ على الكرسيِّ لا أن تحملَه ولا تُسَخَّر). إلا وأنَّ الرجلَ لم يعبأ بكلامِه ولم يستجبْ لما سمعَه، وسارَ في طريقِهِ مستأنِفًا مسيرةَ الشقاءِ والمعاناةِ.
(وهي دلالةٌ على استعذابِ الشعبِ المصريِّ واعتياده على حملِ الكراسي) منذ أن كلَّفَ أول فرعون المصريين بحملِ الكراسي وخدمة الشعبِ له بنظامِ السخرةِ والاستعبادِ .وصوَّر لنا (يوسف إدريس) منظرَ الرجلِ حينما اقتربَ منه، فقد كان عاريَ الجسدِ لا يغطِيِه إلا حزامُ وسطٍ متينٍ ، يتدلى منه ساترٌ أماميٍ وأخر خلفيٍ من قماشِ قلوعِ المراكبِ، يبدو منظره غريبًا ليس على سكانِ القاهرةِ فحسب وإنما على العصرِ كله، فتحسُّ وكأنكَ رأيتُ له شبيها في كُتبِ التاريخِ والحفرياتِ، يبدو على وجههِ ابتسامةٌ مرسومةٌ فيها ذِلةُ السؤالِ والانكسارِ. (وهي دلالةٌ على فقرِ الشعبِ المصريِ ومعاناتِهِ واحتياجِهِ)، كما ركَّزَ (السارد) على غرابِه تفكيرِ الرجلِ وتصرفِه، فلم يتبادر بعد إلى ذهنِهِ ولم يدركْ أن العصرَ هو عصرُ الشعوبِ.. والحكامُ هم مَن يخدمونَ شعوبَهم.
انصرفَ الرجلُ بخطواتٍ متثاقلةٍ حاملاً الكرسي مواصلاً البحث في الزحامِ عن صاحبِ الكرسيِّ (بتاح رع)، تماماً مثلما حملَ (سيزيف) صخرتَه الشهيرة. الدلالةُ هنا واضحةٌ (المعاناةُ والعزفُ واحدٌ سواءٌ تعَّلقَ ذلك بأيامِ قدماءِ المصريين أو العثمانيين أو المماليك أو غيرهِم ممَّنْ حكموا مصرَ، أو في اللحظةِ التي كتب فيها الساردُ قصَتَه (حمَّال الكراسي).
إن وجودَ المفارقةِ Paradox في القصةِ يحث القاريء على التفكيرِ بعمقٍ في المتناقضاتِ والحقائقِ الموجودةِ داخلَ المفارقةِ التي كشفَ عنها وهي بيانٌ متناقضٌ على ما يبدو في ظاهرِهِ، ومع ذلك يعبر عن فكرةٍ حقيقيةٍ.
ولا يبدو لنا (يوسف إدريس) متعجلاً في سردِهِ فهو يمارسُ لعبةَ السردِ بحذاقةٍ ومهارةٍ من خلال قوانين محددةٍ تتم مراعاتُها عبر سردٍ يقفُ عند كل ضرورةٍ ومحطةٍ ومتابعتُها بتأملٍ وهدوءٍ، تأخذُ وتعيدُ في المرئي والمسموعِ بلغتِهِ الساحرةِ المؤثرةِ السلسةِ المفهومةِ بيُسرٍ للقارئ.