د. خالد فوزي حمزة يكتب: ختمة الساعات الأربع

  • أحمد عبد الله
  • الثلاثاء 19 مايو 2020, 3:18 مساءً
  • 1825

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.. أما بعد ..

فلا ريب أن قراءة القرآن من أفضل الأعمال، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل : 4]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة : 121]، وفي تفسير ابن كثير (1/403): قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.

وكثرت همم العلماء في ختم القرآن، ولاسيما في أيام عشر رمضان، فربما ختم أحدهم في اليوم أو الليلة مرة أو أكثر، لكن ورد ما يفيد أن يكون أقل وقت للختم ثلاثة أيام، فعند أبي داود والترمذي مصححا من طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو مرفوعا:  "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث"، قال في فتح الباري (9/97): "وثبت عن كثير من السلف إنهم قرؤوا القرآن في دون ذلك قال النووي والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني وكذا من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرؤه هذرمة والله أعلم. اهـ من الفتح. والذي أشار له الحافظ من آثار السلف؛ ورد منه في مصنف ابن أبي شيبة (ث3710) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَتْ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ حِيثُ دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ فَقَتَلُوهُ، فَقَالَتْ: إِنْ تَقْتُلُوهُ، أَوْ تَدَعُوهُ فَقَدْ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ بِرَكْعَةٍ يَجْمَعُ فِيهَا الْقُرْآنَ، وفيه أيضاً: (ث3711) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ؛ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ، وقال الحافظ في الفتح أيضاً: (2/482): "في كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها".

والرواية المرفوعة فيها نفي الفقه، وليس النهي، ولذا قال كثير من العلماء بجوازه، وذكروا أن ذلك مثل الأعجمي لا يفقه مطلقاً؛ لا في أقل ولا أكثر من ثلاث، فله أن يقرأ في أقل منها، وأيضاً، فليس كل من يقرأ في أكثر من ثلاث يفقه، فيكون هذا تنبيه على أهمية التدبر، وهذا لا خلاف في أفضليته.

وأفضل القراءة هي التي تكون باللسان مع حضور القلب، فإن كان معها النظر والسماع فهو أفضل لاشتغال الأعضاء بالقرآن، كما قال في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/257): "أن القراءة عبادة انضافت إلى عبادة أخرى وهو النظر إلى المصحف ولهذا كانت القراءة من المصحف أفضل من القراءة غائبا"، ولهذا لما قال البخاري رحمه الله تعالى: القراءة عن ظهر قلب؛ قال ابن كثير في فضائل القرآن (1/209)؛ وهذه الترجمة من البخاري رحمه الله مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل، والله أعلم، ولكن الذي صرَّح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل؛ لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف، وهو عبادةٌ كما صرَّح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه"اهـ، وقال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (1/287): "القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه لأن النظر فيه عبادة مطلوبة".

قال النووي في التبيان في آداب حملة القرآن (1/100): "وروى ابن أبي داود القراءة في المصحف عن كثيرين من السلف ولم أر فيه خلافا ولو قيل إنه يختلف باختلاف الأشخاص فيختار القراءة في المصحف لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة في المصحف وعن ظهر القلب ويختار القراءة عن ظهر القلب لمن لم يكمل بذلك خشوعه ويزيد على خشوعه وتدبره لو قرأ من المصحف لكان هذا قولا حسنا والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل" اهـ.

وقد استدل على ذلك بأخبار وآثار، فيها المقبول وفيها الضعيف، ومن المقبول عن ابن مسعود قوله: (أديموا النظر في المصحف)، حسنه السيوطي، وقوله: "من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف"، حسنه الألباني. فهذه كلها في القراءة باللسان، وهي التي ينصرف لها معنى الكلام عند الإطلاق، فهو بصوت وحرف، ولذا أنكر ابن مسعود على من قال له: "إني قرأت المفصَّل الليلةَ كلَه في ركعة. فقال له: هَذّاً كَهذ الشعر؟!، [أخرجه أبو داود، وصححه الألباني].

لكن ثمة نوع من القراءة بالنظر والقلب فقط، وهي مقيدة بذلك، كما في قوله تعالى {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة : 8]. وقد ذكرها العلماء في قراءة الجنب والحائض، قال النووي في المجموع شرح المهذب (2/163): "يجوز للجنب والحائض النظر في المصحف وقراءته بالقلب دون حركة اللسان وهذا لا خلاف فيه".

وعليه فيمكن لطالب العلم أحياناً أن يمر على القرآن كله بهذه الطريقة، فيقرأ بالنظر والقلب، دون اللسان والسمع، لكن توازياً مع ختمة اللسان، وليس عوضاً أو بدلاً.

وقد جُرب ذلك في هذه العشر، فكانت الختمة في أربع ساعات، وكانت ختمة عشر الأجزاء أي ثلث القرآن في ساعة وثلث، قال بعض من جربها: وكان حفظ على صوت الشيخ المنشاوي رحمه الله: "وكأني بي أسمع صوته، وازداد تركيزي جداً"، وقال آخر: الروح تقرأ، والتركيز أعلى، وشعور عجيب بإنجاز عمل هائل في وقت كان بالنسبة لي مستحيلاً، سعادة غامرة، والأمر يحتاج إلى تكرار واستماع وصبر، أنصح بها كل محب للقرآن بشدة، فالأمر يورث التعلق"، وتقول مصونة حافظة مشتغلة بالتفسير: "كأني أجد صدى القرآن في جوفي، وكأن كل عضو مني يقرأه، والقلب ييسمع، ويقوم القراءة".

وهذه الطريقة تثبت الحفظ، ولاسيما في المتشابهات، لأنه يمر على القرآن كله في أربع أو خمس ساعات فقط، لكن لا تكون هذه الطريقة هي الوحيدة التي يتبعها طالب العلم، بل لابد من القراءة باللسان أيضاً، ولعله لأجل هذا قال الشيخ ابن عثيمين كما في فتاوى نور على الدرب (42/9 ـ الشاملة): "ننصح إخواننا عن هذه الطريق أعني أن يقرؤوا بأعينهم وقلوبهم فقط لأنهم إذا اعتادوا ذلك حرموا خيرا كثيرا" اهـ. وقد تقدم أن العلماء اتفقوا على جوازها للحاجة في شأن الحائض والجنب، فلذا تكون أيضاً للحاجة في سرعة الختم في ليالي العشر وتثبيت الحفظ

والله أعلم وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

أ.د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة


تعليقات