أحمد الفولي يكتب: مستضعفون.. يفترشون الأرض ويلتحفون السماء

  • أحمد عبد الله
  • السبت 16 مايو 2020, 2:16 مساءً
  • 2850

في ظُلمة الليل الدامس.. وتحت جنح الظلام الحالك، يفترش مسلمو الروهنجيا الأرض، ويلتحفون السماء، لا يرجون سوى مكانٍ آمنٍ يستَتِرون فيه، بعد انقضاء نهار يوم طويل جدًا مليء بطغيان البشر، الذي يُمارَس عليهم طيلة النهار من خلال جيش يوذي مدجّج بالأسلحة الثقيلة، تستمتع قياداته -المدعومة من الغرب- بتعذيب المستضعفين من المسلمين، والتشفّي باغتصاب نسائهم أمام أعين أزواجهن، وتقطيع أطراف الرجال منهم وهم أحياء، ثم إقامة المقابر الجماعية لهم.

مسلمو الروهنجيا.. خلال شهر رمضان، أزمة متجددة، وحقوق ضائعة، بين إعلام يغض الطرف عنهم، وبين منظمات حقوقية تتجاهلهم، لا سيما في ظل أزمة كورونا الخانقة، التي كادت أن تعصف بأرواح من تبقّى منهم على قيد الحياة.

والمتتبع للأزمة يعلم أنه صراع طويل، بدأ بعد أن شكّل حكم المسلمين المستقل في مملكة أراكان، الغنية بالثروات الطبيعية، إزعاجًا كبيرًا لكل كاره للتديّن، لا سيما مع تمسك مسلمي الروهنجيا بإسلامهم، بل وبالالتزام بالهدي الظاهر، وغير ذلك.

حكم المسلمون الإقليم بشريعة الإسلام، وظل ذلك منذ دخول الإسلام إلى شبه القارة الهندية، ويذكر المؤرخون أن الإسلام وصل إلى أراكان في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد –رحمه الله-، وذلك في القرن السابع الميلادي عن طريق التجار العرب، حيث كانت "أراكان" دولة مستقلة حكمها 48 مَلكًا مسلمًا على التوالي، وذلك لأكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن، أي منذ عام 1430م  حتى عام 1784م، وقد تركوا آثارًا إسلامية من مساجد ومدارس وأربطة منها مسجد بدر المقام في أراكان والمشهور جدًا -ويوجد عدد من المساجد بهذا الاسم في المناطق الساحلية في كل من الهند وبنغلاديش وبورما وتايلاند وماليزيا وغيرها- ومسجد سندي خان الذي بُني في عام 1430م وغيرها[1].

"ولقد تعرف أهل أراكان على الإسلام منذ القرون الأولى من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، عن طريق التجار أو البحّارة العرب، الذين اعتادوا زيارة "أكياب" عاصمة أراكان، عن طريق البحر بهدف التجارة أو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ومع مرور الزمن كان الإسلام قد تمركز في قلوب الناس وأرواحهم، وازداد عدد المسلمين وقوتهم إلى أن استطاعوا إقامة أول دولة إسلامية في أراكان بقيادة السلطان "سليمان شاه"، وذلك عام 1430م، وامتد الحكم الإسلامي في هذه البلدان لأكثر من 350 عامًا، وتعاقب عليها نحو 48 سلطانًا مسلمًا، وكانت شعارات الدولة ونياشينها تتضمن نقوشًا عليها عبارات إسلامية، كما نُقشت على العملات المتداولة في زمانهم كلمة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، والآية القرآنية {وأن أقيموا الدين}[2].

ظلّ الحكم بالإسلام قائمًا في أراكان، يتحاكم إليه الناس جميعًا، وازدادت دعوة الإسلام باستقرار المجتمع المسلم داخل الدولة الغنية بثرواتها، مما أثّر على دول الجوار وأولها ميانمار البوذية.

 

إنها الفاتورة التي قُدّر لأهل الدين أن يدفعوها دائمًا لتكون ثمنًا لالتزامهم بدين الله عز وجل، أو محاولتهم لإصلاح الناس وتعبيدهم لرب الناس، وأكثر الناس بلاءً هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

ولقد أثار التزام أهل أراكان بتعاليم الإسلام، واتباعهم لسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حقد عُبّاد بوذا، لا سيما وأن الإسلام هو دين الفطرة التي خلق الله -عز وجل- الناس عليها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: "وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ"[3].

ولعلك إن نظرت إلى صور المسلمين المستضعفين، والمنتشرة لهم أثناء فرارهم من أرضهم في إقليم أراكان، ترى آثار هذا الالتزام الذي لا زال موجودًا رغم الحرب العنيفة التي قادها رموز الغرب عليهم، لإسقاط هويتهم وتدميرها، فترى اللحية في وجوه الرجال منهم، وترى الحجاب ينتشر بين النساء، فلا تكاد ترى امرأة دون حجاب أو سترة على شعرها ووجهها.

إن هذا الالتزام بدين الله -عز وجل- كان سببًا رئيسًا في الحرب على مسلمي الروهنجيا بلا هَوادة، هذه الحرب التي هي من صميم سنن الله الكونية في هذه الأرض، لكل من أراد أن يجعل من الإسلام منهج حياة له، يلتزم به في حياته وينطلق من خلال قواعده، ولك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، حيث قالها له ورقة بن نوفل صراحةً، حين قصّ عليه النبيّ ما رأى، فقال ورقة: "لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ"؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا"[4].

وما يحدث لمسلمي الروهنجيا لا نستطيع أن نفصله بحال من الأحوال، عما حدث لأمم كثيرة من قبل، كأصحاب الأخدود الذين أضرموا في النيران، بسبب إسلامهم، وقد قال الله -عز وجل- عنهم: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[5].

وما نقم هؤلاء البوذيون على مسلمي أراكان إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فهذا هو جُرمهم عند هؤلاء المتطرفين الذين يكرهون الإسلام في الحقيقة، ولم تكن حربهم يومًا لأجل عرق أو قبيلة، وإنما هي حرب إبادة على "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

 

إن أهل أراكان دفعوا فاتورة كبيرة لإسلامهم، لا سيما وقد بدأ الناس يتحدثون عنهم وعن أمانتهم وعن مملكتهم الصغيرة المباركة، مما أثار الحقد البوذي تجاه المسلمين.

ففي عام 1784م، احتل أراكان الملك البوذي البورمي "بوداباي"، وضم الإقليم إلى دولة بورما، خوفًا من انتشار الإسلام في المنطقة، وعاث في الأرض الفساد، حيث دمر كثيرًا من الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس، وقتل العلماء والدعاة، واستمر البوذيون البورميون في اضطهاد المسلمين ونهب خيراتهم وتشجيع البوذيين "الماغ"[6] على ذلك خلال فترة احتلالهم أربعين سنة، والتي انتهت بمجيء الاستعمار البريطاني في عام 1824م حيث احتلت بريطانيا بورما، وضمتها إلى حكومة الهند البريطانية الاستعمارية.

وفي عام 1937م جعلت بريطانيا بورما مع أراكان مستعمرة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية كباقي مستعمراتها في الإمبراطورية آنذاك، وعُرفت بحكومة بورما البريطانية[7].

خلال هذا الفترة التي قام فيها الاحتلال البريطاني بالسيطرة على دولة المسلمين في شبه الجزيرة الهندية، واجَه المسلمون الاحتلال البريطاني بقوة رهيبة، مما أوغر عليهم صدور البريطانيين، فعمدوا إلى تحريض البوذيين على المسلمين وأمدوهم بالسلاح، فارتكبوا مذبحة قتلوا فيها نحو مائة ألف مسلم في أراكان سنة 1942م[8].

هذا العام 1942م تعرّض المسلمون لمذبحة وحشية كبرى من قِبَل البوذيين الماغ بعد حصولهم على الأسلحة والإمداد، من قِبَل إخوانهم البوذيين البورمان والمستعمرين البريطانيين وغيرهم، والتي راح ضحيتها أكثر من مائة ألف مسلم أغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وشرد مئات الآلاف خارج الوطن، ومن شدة قسوتها وفظاعتها لا يزال الناس -وخاصة كبار السن- يذكرون مآسيها حتى الآن، ويؤرخون عنها، ورجحت بذلك كفة البوذيين الماغ، كمقدمة لما يحصل بعد ذلك.

وفي عام 1947م قبيل استقلال بورما عقد مؤتمر عام في مدينة "بنغ لونغ" للتحضير للاستقلال، ودعيت إليه جميع الفئات والعرقيات إلا المسلمين الروهنجيا لإبعادهم عن سير الأحداث وتقرير مصيرهم.

وفي عام 1948م وبالتحديد يوم 4 يناير منحت بريطانيا الاستقلال لبورما شريطة أن تمنح لكل العرقيات الاستقلال عنها بعد عشر سنوات إذا رغبت في ذلك، ولكن ما أن حصل البورمان على الاستقلال حتى نقضوا عهودهم، ونكثوا على أعقابهم، حيث استمروا في احتلال أراكان بدون رغبة سكانها من المسلمين الروهنجيا، وقاموا بالممارسات البشعة ضد المسلمين.

وابتداءً من عام 1948م، بدأت حكومة بورما إحكام سيطرتها على زمام أراكان المسلمة، بعد أن سلّمتها بريطانيا على طبق من ذهب للبوذية هنالك، وتعاقبت عليهم الحكومات التي أخذت تنقلب على بعضها حكومة بعد أخرى.

"ومنذ أن استولى العسكريون على الحكم في بورما بعد الانقلاب العسكري بواسطة الجنرال نيوين عام 1962م، تعرض مسلمو أراكان لأنواع من الظلم والاضطهاد من القتل والتهجير والتشريد والتضييق الاقتصادي والثقافي، ومصادرة أراضيهم، ومصادرة مواطنتهم بزعم مشابهتهم للبنغاليين في الدين واللغة والشكل.

وتم تدمير الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس تاريخية. وفي عام 1962م طُرد أكثر من 300 ألف مسلم إلى بنغلاديش. وفي عام 1978م طرد أكثر من نصف مليون مسلم، مات منهم قرابة 40 ألفًا من الشيوخ والنساء والأطفال حسب إحصائية وكالة "غوث وتشغيل اللاجئين" التابعة للأمم المتحدة.

في عام 1988م تم طرد أكثر من 150 ألف مسلم، بسبب بناء القرى النموذجية، وفي عام 1991م تم طرد قرابة نصف مليون مسلم، وذلك عقب إلغاء نتائج الانتخابات العامة التي فازت فيها المعارضة بأغلبية ساحقة، قامت حكومة بورما بإلغاء حق المواطنة من المسلمين، وتم استبدال إثباتاتهم الرسمية القديمة ببطاقات تفيد أنهم ليسوا مواطنين"[9].

إلغاء حق المواطنة للمسلمين بعد الاستيلاء على دولتهم، كان ولا زال من أكبر العدوان الذي شنته حكومة ميانمار قديمًا وحديثًا على أقلية الروهنجيا.

يقول صاحب كتاب "الإسلام والمسلمون في جنوب شرق آسيا": "ومنذ حصولهم على الحكم الذاتي 1937م، والاستقلال التام عام 1948م، قاموا بذبح 300 ألف مسلم، ونفي أكثر من مليون ونصف المليون خارج أراكان، يعيشون الآن في أجزاء مختلفة من العالم، بما فيها بنغلاديش وباكستان والمملكة العربية السعودية وماليزيا وتايلاند ودولة الإمارات العربية المتحدة".

وعملية التطهير العرقي ضد المسلمين الروهنجيا، أصبحت خطيرة، منذ قيام الاشتراكية الديكتاتورية بزعامة الجنرال "ني وين" في عام 1962م، فلم تترك سبيلًا إلا واتبعته لسحق المسلمين سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، بالإضافة إلى خلق ظروف خانقة من خلال التعذيب الجسدي والإرهاب الذي يدفع المسلمين إلى هجر وطنهم أراكان.
ففي عام 1978م طُرد أكثر من 300 ألف مواطن روهنجي بالقوة إلى بغلاديش إثر عملية شنتها الطغمة الحاكمة الاشتراكية العسكرية ضد المسلمين، وبعد عودتهم عام 1979م، أصدرت الحكومة البوذية قانونًا جديدًا للجنسية البورمية في عام 1982م، حيث أصبح الروهنجيا بموجب هذا القانون المزعوم شعبًا بلا هوية وبلا مواطنة"[10]



[1] وكالة  أنباء الروهنجيا، مقال تاريخ المسلمين في أراكان.

[2] الإسلام والمسلمون في جنوب شرق آسيا، الدكتور محمود أحمد قمر، ص82.

[3] صحيح مسلم، كتاب القدر، رقم الحديث 4809.

[4] متفق عليه.

[5] سورة البروج، آية 8.

[6] عرقية بوذية متطرفة استوطنت أراكان، وتعرف تاريخيًا بأنها أكثر طوائف البوذية عداءً للمسلمين.

[7] تاريخ المسلمين في أراكان، وكالة أنباء الروهنجيا.

[8] موقع الجزيرة نت.

[9] وكالة أنباء الروهنجيا.

[10] الإسلام والمسلمون في جنوب شرق آسيا، الدكتور محمود أحمد قمر، ص83.

تعليقات