هل يتعمد إبراهيم عيسى تشويه التاريخ الإسلامي؟ (فيديو)
- الخميس 21 نوفمبر 2024
أندلس رشدي
أتَّكِئ على حافة زماني السحيق، ترهقني حالة ضبابية تكاد تسيطر علي روحي تماما، فلا أستبين وجودي ولا أشعر به.
أحاول أن أزاور موطني الحالي، وذلك لشعوري المتزايد بالسَأم والضيق من حياتي الطويلة داخل موطن واحد ، فربما أكتشفُ موطنا جديدا يحتويني، ولكنني في أغلب الأحيان أفشل تماما.
أشعر بأنني فريدة من نوعي في عالم يَعِجُّ بالكائنات المرئية وغير المرئية، فليس لي شبيه أو مثيل، بل أنا حالة متفردة في حد ذاتها، زماني يتصل ببدء التكوين، ومن روحي تنبع روح الأرض، وفي أعماقي تكمن أسرار الحياة.
في بعض الأوقات النادرة يأخذني الغرور، فأشعر وكأنني أجلس متربعة على جبين العالم.
"ما خطبك أيها الرجل المسكين لماذا تنظر إليَّ هكذا؟"
أتحدث إلى ذلك الرجل الخمسيني الجالس على مقعده المتحرك، والذي يعلو وجهه الشحوب والاصفرار، ولا يقوى على الكلام بسهولة، يبدو أنَّه حزين، بل إنه في غاية الحزن، أحاول أن أتقرب إليه وأحادثه ولكنه يُبدى تجاهي نفورا ملحوظا.
إنَّ ما يؤرقني حقا، أننى لا أعرف سببا معينا لذلك النفور البادي على ملامحه على الرغم من أنني أظن أنني أعرفه جيدا.
حدثتُ نفسي بأنني سأحاول الاقتراب منه مجددا، وكلما اقتربت منه، وركزت في ملامحه، وشممتُ رائحته، تأكدت من صدق حدسي، وبأن هناك علاقة وثيقة بيني وبينه، ولكنني لم أستطع تحديدها بوضوح في تلك الأثناء.
لم أعبأ بتلك النظرات النارية التي بدأ يوجهها إلي بعينيه الذابلتين اللتين أنهكمها المرض، فهناك شيء ما يشدني إليه أقوى مني ومنه.
ما إن لامستُ جبينه حتى شعرت أنه يشبهني تماما وأنه كان يحتويني في زمن مجهول التوقيت بالنسبة لي، وأنني كنت أسكنه يوما ما.
يا له من مسكين فقد حاول أن يدفعني عنه بقسوة، يا لسوء حظي إنني أشعر أنه لا يطيقني بالمرة.
ولكم كانت تعاستي الحقيقية، عندما سمعته يئن بصوت مسموع، فقد بدأت تتصاعد منه زفرات ألمٍ بالغة القسوة ولكنه يحاول أن يُطبِق بشفتيه عليها، ولكنها تصمم أن تخرج منه عنوة مُحْدِثة آهات متعددة الطبقات.
آآه...آآآآآه ....آآآآآآآه... وما هي إلا ثوانٍ معدودات حتى تحولت تلك الآهات إلى صرخات مدوية ملأت االمكان، على أثرها فقد الوعي تماما، بينما كان لا يزال جالسا على مقعده المتحرك.
انتهزتُ الفرصة وحاولتُ أن أتخذ مكانًا بجواره على حافة مقعده المتحرك حتى أقترب منه أكثر وأكثر، فربما أكتشف سببا لذلك الألم غير المحتمل الذي يعاني منه ذلك الرجل المسكين.
لحظات مخيفة تلك التي مرَّتْ بي وأنا جالسة بجواره، حاولت خلالها الفرار من ذلك الشعور الغامض الذي اكتنفني منذ وقعتْ عيناي عليه وهو يتأوه ويئن من شدة الألم، ولذلك فقد حاولت أن أرحل إلى حيث عالم آخر بعيد حتى لا أراه وهو يتألم على ذلك النحو.
هاجرتُ من وقتي إلى حيث زمن آخر تظهر لي فيه بعض الصور القديمة فأحاول أن أسترجعها واحدة تلو أخرى.
عدتُ بذاكرتي إلى حيث زمن انتابتني فيه حالات من الملل غير المحتمل، وأطوار من الضجر غير المبرر، وذلك حينما كنت أشعر فيها بصغر حجمي المتناهي وسط ذلك الكون العملاق، حتى إننى اعتبرت نفسي وقتها كائنا عديم القيمة لا يساوي شيئا على الإطلاق.
في ذلك الحين وعندما تفاقمت معي تلك المشكلة، قررتُ أن أبذل كل ما في وسعي لكي أعيد تكوين نفسي من جديد، وأحاول جاهدة أن أضاعف من حجمي، وذلك حتى أتمكن من العيش بكرامة وسط باقي الكائنات الأخرى، وحتى أستطيع التخلص من ذلك الشعور بالمهانة الذي كان يراودني باستمرار.
أعترف بأنني بلهاء حقا، بل يبدو أنني أعاني من ازدواج في الشخصية، فعلى الرغم من كوني كثيرة التمرد على حجمي متناهي الصغر، إلا أنني في كثير من الأحيان كان يراودني شعور بكوني أحمل بداخلي أسرارا كثيرة، من الممكن أن تغير وجه العالم تلك التي لا يستطيع أن يسبر أغوارها أحد سوى هؤلاء العباقرة الذين أعيتهم السبل في سبيل اكتشاف أسرارى المكنونة، أنا ومثيلاتي من سائر الكائنات غامضة التكوين.
في النهاية قررت أن أعيد تدوير نفسي من جديد، حتى يتضاعف حجمي بصورة تمكنني من إضفاء بعضًا من الوقار على كياني المشكوك في قيمته من وجهة نظري الشخصية، وحتى ألفتَ نظر الآخرين إلى كوني أحمل بداخلي أسرارا لا يستهان بها، من الممكن أن تغير وجه الحياة البشرية عموما.
في أول الأمر أخذت على عاتقي القيام بعملية شديدة الاحترافية لكي أحقق مآربي المنشودة في تضخيم حجمي، تلك التي تطلبت مني مزيدا من الليونة والسلاسة واللياقة تلك الصفات التي لا يمكن أن يتمتع بها سوى مخلوقة متناهية الصغر مثلي، تستطيع أن تتحرك في أي حيز مهما كان صغيرا وفي أي وقت تشاء.
بدأت أتلوَّى.. وأتمطَّع.. وأستطيل أفقيا ورأسيا ودائريا، أخذت أقوم بعمل تشكيلات عشوائية داخل المحيط الذي أحيا فيه دون توقف، ولكم كانت دهشتي حينما لاحظتُ أن حجمي بدأ يتضاعف بالفعل، الأمر الذي جعلني أتحفز لاستكمال المشوار الذي بدأته.
ولكن الأمور لم تكن لتسير على ما يرام كما كنت أهوى وأرغب، فقد بدأ يتنامى إلى سمعي أصوات استغاثة قريبة مني، أخذتْ تتعالى شيئا فشيئا، ثم بدأتْ في إطلاق تحذيرات من العواقب الوخيمة التي من الممكن أن تحدث من جراء ارتكابي لتلك الأفعال غير المقبولة على الإطلاق.
يبدو أن حجمي تضاعف بشكل ملحوظ حتى إنني أخذت حيزا أكبر من الحيز الذي كنت أشغله بالفعل مما جعلني أجور على نصيب غيري دون أن أدري.
ازدادت تلك الأصوات المحذرة بشكل كبير، وتبلورت في صورة عبارات قاسية بدأت تنهال عليَّ دون توقف حتى بدت وكأنها طلقات رصاص موجهة صوبي مباشرة، لكي تصيبني في مقتل، فها أنا أسمعهم يقولون لي:
"ماذا تفعلين أيتها الحمقاء؟"
"إنك حقا مختلة العقل "
"مالك تتمطَّعين وتتلونين هكذا كالحرباء؟"
"أما تعلمين أن هذا التمدد سوف يجلب عليكِ وعلينا المتاعب؟"
"توقفي حالا أيتها المخادعة الماكرة"
وقتها لم أكن لأعبأ بتلك الأصوات المستنكرة، بل تماديتُ فيما أفعله وكأن أذناي بهما صمم، ويا له من جبروت ذلك الذي طغى عليّ في تلك الأثناء حينما شعرتُ وكأنني أصبحتُ كائنًا عدوانيًا جدا يكاد يلتهم كل ما يجاوره، ويريد أن يخترق كل ما حوله دون رقيب أو حسيب، ويا لها من طبيعة هستيرية تلك التي تملكتني حينما بدأت أطمع في المزيد والمزيد من ضخامة الحجم، حينها بدأت أتمادى في تلك الانقسامات العشوائية دون نظام محدد، متنقلةً من طور إلى طور دون توقف.
في تلك الأثناء حدثت نفسي بأنني قد صرت مثل ِهولاكو الفاتح المغولي، الذي لم يستطع أحد أن يوقفه عن تحقيق بطولاته وانتصاراته فعثا في الأرض فسادا وطغيانا.
بدأ الصراخ والعويل يتعالى من حولي مرة أخرى، وبدأتْ الأصوات المحذرة تبلغ أقصى حد لها في الاضطراب والهلع، وبدأت عبارات التجريح تنهال علي من جميع الاتجاهات فأسمعهم يصرخون في وجهي قائلين:
"توقفي أيتها الطائشة فلقد حكمتِ على نفسك بالفناء ولسوف تقضين علينا جميعا، فقد التهمتِ بعضنا والدور سوف يأتي على الباقيات مِنَّا".
"توقفي...توقفي ..لملمي ما انشطر منك ، وصار كالوباء الذي سوف يدمرنا جميعا بلا استثناء"
عندما تحسستُ نفسي في تلك الأثناء، هالني ما صرت إليه فقد تضخَّم حجمى فعلا بصورة غير طبيعية، الأمر الذي جعلني أشعر أن صورتي هي الأخرى باتت مثيرة للاشمئزاز.
ويالها من لحظة أصابتني بالذعر الحقيقي حينما انتبهت جيدا لذلك الضوء الذي بدأ يتسلط عليَّ فأخافني وأفزعني، والذي حاولتُ أن أتفاداه بكل ما في وسعي ولكن دون جدوى، فقد حاولت التحرك من مكاني ولكن هيهات، فقد ثقلت حركتي وأصبحت في موقف لا أُحسد عليه.
خلف نظارته السميكة باتت عينيه مجهدتين من جراء البحث الدائم بواسطة ذلك الميكروسكوب المتطور جدا، وشديد التعقيد في أمر تلك الخلية الغريبة والمتمردة على حالها والتي تبدو كنغمة نشاز وسط تلك السيمفونية الرائعة من تلك الخلايا المتناسقة رائعة التكوين، والتي تكون نسيجا بشريا بالغ الدقة.
بحكم عمله كعالم مجهريات، فهو يقضي معظم وقته تقريبا في معمله الذي أسسه وزوده بأحدث التقنيات العلمية والمعملية المبهرة، حتى أصبح واحدا من أهم العلماء المتخصصين في علم الخلايا، ولا سيما أمثال تلك الخلية المتعجرفة التي لا ترى سوى نفسها فقط، دون أن تقتنع أنها لا تستطيع أن تنفصل عن ذلك النظام الكوني المرسوم لها بعناية شدية وبدقة متناهية كبقية الخلايا الأخرى، فليس لها أن تشذَّ عنها بأي حال من الأحوال وإلا فسوف تحدث كارثة محققة.
كثيرا ما يهمس ذلك العالم لنفسه قائلا:
"يا إلهي ما الذي أصاب تلك الخلية ولماذا تنشق على مثيلاتها بهذه الصورة الغريبة المنفرة ،يا لها من خلية حمقاء غبية حقا".
في حقيقة الأمر فإنه لم يتوقف لحظة عن مراقبة تلك الخلية منذ بدء تمردها على حجمها المتناهي في الصغر، وكثيرا ما حاول جاهدا أن يكتشف سر تمردها وعصيانها، وظل يتابعها بإرادة من حديد، ولم تفتر همته لحظةً واحدة في سبيل الوصول إلى أسباب ذلك الخلل الذي أصاب تلك الخلية التي كانت وبالا على نفسها، وعلى الخلايا الأخرى ومن ثم على الجسد المستوطنة فيه ولكن دون جدوى.
اتخذ قرارا سريعا بضرورة استئصال تلك الخلية لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
يتمدد ذلك الرجل الخمسيني على سريره بالمستشفى تحت تأثير التخدير الكامل، وحوله طاقم الأطباء ومن بينهم ذلك العالم المتفرد في البراعة والذي أمر بانتزاع تلك الخلية المتمردة من ذلك الجسد، الذي بات على شفا الفناء المحقق من جراء فعلتها الشنعاء التي لا تغتفر، والمتمثلة في نموها العشوائي، وازدياد حجمها بصورة خارجة عن المألوف.
بدأ الأطباء عملهم بدقة متناهية حتى تمكنوا من استئصال تلك الخلية، واستخراجها بالكامل من جسد ذلك الرجل المريض.
تتذكر بامتعاض تلك اللحظة المهينة التي ألقوا بها فيها خارج جسد ذلك الرجل الخمسيني، بعد أن حُكِم عليها بالنفي والاستئصال، تلك اللحظة التي استُبعِدت فيها عن موطنها الأصلي بعد أن خرَّبته وخرَّبت نفسها في نفس الوقت.
تؤوب من رحلة التذكر إلى حيث تجلس على حافة المقعد المتحرك بجوار ذلك الرجل المريض الذي بدأ يستعيد وعيه مرة أخرى، فتشعر أن حالة الرجل قد بدأت تزداد سوءًا.
يبدو أن الآلام قد بدأت تعاوده مرة أخرى، ولكن مما لا شك فيه أنها كانت آلاما مُبَرِّحة لا تطاق في تلك المرة، فقد بدأ يئن أنينا موجعا، ويتأوه تأوها يمزق نياط القلوب، وما هي إلا لحظات حتى بدأ في الصراخ من جديد.
أيقنت أنها هي السبب الجوهري الذي جعل ذلك الرجل يصل إلى تلك الدرجة من الانحدار، نتيجة لتهورها وخروجها عن النظام المحدد الذي يفرضه عليها تكوينها وطبيعتها التي خُلِقَت عليها.
تمتمت بصوت تشوبه الحسرة قائلة:
"إنني حمقاء فعلا، ياليتني ما فعلت ذلك الخطأ الكبير في حقي وحق ذلك الرجل البائس".
حاولت أن تهدئ من روعه، ولكن دون جدوى، فيبدو أن آلامه كانت غير محتملة بالمرة ، فما هي سوى لحظات قليلة حتى توقف عن الصراخ، وهدأت حركته ومن ثمَّ بات جسدا هامدا بلا حراك على مقعده المتحرك.
بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة، كان لا بد لتك الخلية أن تلحق به هي الأخرى، فما عاد لها مكان وسط عالم الأحياء، فما هي إلا ثوانٍ حتى تلاشت هي الأخرى في الهواء، واندثرت طي العدم والفناء.
معزوفة شعرية
(العمر الجميل)
يسكنُ الزمانُ بين راحتيه.....
يتقاطرُ حلمًا جميلا...
يتناثر في الأجواء أشلاء...
أعدو إليها لكي ألملمها....
وأزرعها وردا نديًا.....
ولكنني أذوب منه حياء....
ليتني الزمانُ الذي يسكنهُ....
وليتني الورودُ التي تفتنهُ...
فألوذ براحتيه من كل الأشياء.