باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
أرشيفية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
أما بعد.. فمسألة الصلاة
خلف المذياع، والرائي، أو ما كان أشبه بهما، فقد أطلت هذه المسألة برأسها
مع بدايات ظهور الإذاعة في العالم الإسلامي، وكشأن كل جديد لم يثبت الاعتماد عليه
في الأحكام الشرعية، نظر المفتون منه إليه بحذر شديد، كما أننا الآن ننظر إلى
المسائل المتعلقة بوسائل التواصل ليس بنفس النظرة التي كنا ننظر لها منذ بدايات
ظهورها، وكذا كان شأن الفقهاء كل عصر، فنحن الآن نعتمد في الصوم والإفطار على ما
يبلغنا من هذه الأجهزة وقديما اختلفوا في صحة الاعتماد على الهاتف والتلغراف في
الأحكام الشرعية، كما في مجلة المنار وغيرها، مما لا نكاد نسمع اليوم من يسأل عما
يتعلق به الآن.
ومع ظهور وباء كورونا فزع الناس من مسألة إقفال المساجد
وتعطيلها، ولاسيما مع دخول شهر رمضان المبارك، فبدأت الأسئلة تثور حول صحة صلاة
الجمعة والجماعة خلف التلفاز، وسرعان ما تكلم فيها الفقهاء، كل حسب نظرته الفقهية
وتصوراته.
وكشأن كل قضبة، نجد أن هناك من منع، وهناك من أجاز، وهناك من
فصل فأجاز وقت الاضطرار دون وقت الاختيار. وأتناول المسألة هنا بصورة فقهية متخصصة
نوعاً ما.
قد اتفق الجميع على صحة الجمعة والجماعة خلف هذه الأجهزة، في
حالة وجود الإمام والمأموم في مسجد واحد، وإنما النزاع في خارج المسجد، وإذا حررنا
محل النزاع، نجد أن المسألة تدور حول كون الإمام والمأموم في نفس البقعة أو لا،
ولحاجة أو لغير حاجة، فتنتج أربع صور لذلك.
فأما كون الإمام والمأموم في نفس البقعة والمكان لحاجة،
فيمتلئ المسجد وتتصل الصفوف للطرق والدور، وتنقل لها الصلاة بالأجهزة الحديثة فهذه
الصورة يكاد يتفق على جوازها الفقهاء.
أما
إن كانت لغير حاجةـ فمن اعتل باتصال الصفوف فإنه يمنع، ومن اكتفى برؤية
إمام أو مأموم يأتم به أجاز، وهو الأرجح، لظواهر نصوص ولكثرة الآثار السلفية في
ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وهي معروفة مشهورة، وأشار إلى بعضها البخاري، بعد
أن بوَّب (باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة). وأخرج البخاري أن
الصحابة صلوا بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حجرته، وفي رواية (في حجرة من
حجر أزواجه) ولو كانت حجرة الحصير لم تنسب إلى زوجة من زوجاته صلى الله عليه وسلم،
ولم تكن الحجرات مسقوفة، بل البيوت، فليس ههنا ما يفهم منه اشتراط اتصال الصفوف.
وجاء عن أنس أنه كان يجمع مع الإمام، في دار، وعن ابن عباس أنه صلى في حجرة
ميمونةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الإمام يوم الجمعة، وعنه: لا بأس
بالصلاة في رحبة المسجد والبلاط بصلاة الإمام)، والأفنية والرحاب ليست من المسجد
والتفرقة بينهما باطلة. وعن صالح مولى التوأمة قال: رَأيتُ أبا هريرة رضي الله عنه
يُصَلِّي فَوقَ ظَهْرِ المسجِد وَحدَهُ بصَلاَةِ الإمَامِ، وجاءت الآثار عن الحسن
وعطاء وسالم بن عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير وغيرهم بنحو ذلك، ولذا اكتفى
الإمام أحمد في رواية بسماع التكبير كما قرره ابن رجب في شرح البخاري.
وأما إذا كان الإمام والمأموم في مكانين متباعدين،
فعلى الرغم أن أكثر الفقهاء قالوا ببطلان الاقتداء مع الفاصل الكبير، لكن مع النظر
تبين أنهم يمنعون لعدم إمكانية المتابعة، وحيث كانت الأجهزة الحديثة تتم المتابعة
من خلالها بدقة، فمن هنا اختلف المعاصرون في صحة الاقتداء والحالة هذه، سواء
لحاجة، ولغيرها.
وكانت حجج من منع تدور حول أن الأصل في الجماعة لغة وشرعاً
الاجتماع، وأن القول بصحة هذا أمر محدث وإحداث قول ثالث والعبادات ليست مكاناً
للاستحسان العقلي، والقول بالجواز إنما هي فتاوى شاذة وخروج عن أقوال الأئمة، ولكن
هذه الأمور يصح تطبيقها على غير النوازل، فإن العلماء في تكييف النازلة لا يذكرون
سلفاً بل ويخرجون أحياناً للفقه
المقاصدي وإن خالف أصول المذاهب، كاشتراط مجلس العقد في النكاح
والبيوع، ثم قرروا الآن جوازه بالفضاء الإلكتروني، وغير ذلك من مسائل القبض،
والمسائل البنكية.
ثم إن النظر في المذاهب الفقهية القديمة نجد بعض المسائل
الافتراضية، وقد تتوافق أو تتناقض الفتوى في النازلة الحديثة كتصور الحنفية
الانتقال السريع كرامة، فبنوا عليها أن الولد لستة أشهر [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 7/249]، ولو تزوج مغربي بمشرقية، ويفتى
به الأن لإمكان السفر السريع والعودة في نفس اليوم، ولما منع الشافعية الصلاة في
أرجوحة معلقة [الوسيط للغزالي 2/61]، لم نبن عليها منع لصلاة في
الطائرة، بل أجازها أكثر المعاصرين، بل إن من المالكية من أجاز أن يكون الإمام في
الجماعة من الجن أو الملائكة، [شرح
خليل للخرشي 4/389]،
وتصور مكانه أيضاً من المأمومين فيه عسر. لذا فالصحيح في النازلة النظر في الأدلة
وما يشبهها.
أما ما اعتلوا به بأن الصلاة خلف التلفاز ونحوه قد يؤدي إلى
تعطيل المساجد، فهو غلط، فأولاً لأنها بالفعل معطلة الآن، وثانياُ فإن الناس قد
تستمرئ الحال الحاضر بعد كورونا فتتعطل المساجد أيضاً، وثالثاً لأن جمهور العلماء
يقولون باستحباب صلاة الجماعة لا وجوبها، ولم تتعطل المساجد، فالحرص على الخير باق
في الأمة.
وما اعتلوا به بأنه يؤدي إلى التقدم على الإمام، أو تبطل الصلاة مع انقطاع الكهرباء، ومثل هذه الأمور النادرة، فليس أيضاً بقوي، لأن التقدم للحاجة جائز، ثم لو انقطعت الكهرباء فإنهم يتمونها بانفراد، كما لو انقطع صوت الإمام قديماً، وكذا ما أثاروه من أن تكون الصلاة في لبيوت مع الحرمين أفضل، وهذا غلط لأن النص (إلا المكتوبة)، ووجوب السعي وإتمام الصف الأول وسد الخلل لا يتأتى إلا بالذهاب للمسجد، وإنما الكلام في حال الاضطرار الآن هذه.
هذا حول أدلة من منع إقامة
الصلاة خلف التلفاز ونحوه، وأتناول في هذا القسم الثاني ما استدل به المجيزون:
أن صلاة الجماعة ركناها الإمام والمأموم، وصلاة الجمعة تمتاز
عليها بالخطبة، وما شرط من شرائط الجمعة جله منازع فيه، ولاسيما في حالة الاضطرار،
حتى ما يبقى إلا الشرط المجمع عليه للجماعة وهو معرفة انتقالات الإمام، وتنزل
عليها كثير من الآثار الواردة عن السلف في ذلك، حتى شرط اتصال الصفوف تنازل عنه
كثير من المعاصرين، وقد كان يقول به الشيخ ابن عثيمين، ثم رؤي يصلي في القصور
الملكية في رمضان، وربما لم تتصل الصفوف، بل إن كثيراً من الناس يصلون خارج المسجد
الحرام في القصور وخارج القصور، بينهم وبين الإمام شوارع تمر عليها السيارات
وغيرها، ولا يرون الإمام ولا من يرى الإمام، وأحياناً يكون الصحن داخل المسجد
خالياً عن الناس، وعلماء المملكة وفيهم كبار هيئة العلماء يرون ذلك ولا ينكرونه.
فإن قيل هذا لأن الإمام والمأموم في نفس البقعة، فيقال قد
دلت أدلة إلى أنه يمكن أن يتعدى ذلك إلى غير المكان والبقعة، ومن ذلك صلاة النبي
صلى الله عليه وسلم على النجاشي، فطرفا صلاة الجنازة الأول: المصلي "فرداً أو
جماعة"، والثاني: الجثمان، وجازت الصلاة على الميت مع التباعد في المكان،
كحال الصلاة على النجاشي، فكذلك في صلاة الجماعة التي ركناها الإمام والمأموم يصح
التباعد في المكان، ما دام يسمع المأموم انتقالات الإمام. باعتبار أن كليهما صلاة لحديث (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) [رواه
أبو داود وغيره وصححه الألباني].
ويؤيده: أن في عهد الصحابة أرسل عمر رضي الله عنه جيشا وأمر
عليهم رجلا يدعى سارية فبينما عمر يخطب فجعل يصيح يا ساري الجبل فقدم رسول من
الجيش فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا فإذا صائح يصيح يا ساري الجبل
فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله فقلنا لعمر كنت تصيح بذلك) [رواه
البيهقي في دلائل النبوة 6/370؛ وصححه الألباني]، فهذا
القائد (سارية) اعتمد صوت عمر، فائتمر به فنجوا، رغم المسافة، فإذا صح أن الجيش
تابع الصوت من على بعد، وأتمر به وكان الخير في ذلك، فما المانع في متابعة الإمام
من على بعد.
واستدلوا بعموم لفظ (الجمعة على من سمع النداء). فمن سمع
النداء في المذياع وسمع الخطبة والصلاة فإن الحكم يلزمه ولا بد. لأن بإمكانه أن
يجيب بأداء الصلاة بمكانه.
واستدلوا بالمعية الواردة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:
43]. ونحوه من الأدلة فلفظة (مع) تطلق على من كان مع غيره بجسده فعلاً، وعلى من
كان معه حكماً سواء كان قريباً منه أو بعيداً عنه لغة وشرعاً، كما في الحديث
بالبخاري عن أنس: (إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا
فيه حبسهم العذر)، وفي رواية جابر عند مسلم: (المرض). وهؤلاء كانوا معهم بالعزم
فقط، فكيف بمن كان مع قوم بالعزم والحركات، والسكنات والقراءت، والتحريم والتحليل،
ما نقص منه شيء إلا رؤيتهم بالعين فقط.
واستدلوا بصلاة الملائكة خلف المصلي مع اختلاف المكان: ففي
الحديث الموقوف (ما من رجل يكون بأرض قىٍّ فيؤذن بحضرة الصلاة ويقيم الصلاة إلا
صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى قطراه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على
دعائه) ولا يقال من قبل الرأي، وهذا ليس تكليفاً، ونحن قد أمرنا بأن نفعل في
الصفوف كما يفعلون.
واستدلوا أيضاً بما جاء في الحديث فإن قال النبي صلى الله
عليه وسلم قال (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)،
والفضل يمتد مع التوسعة، لما روي عن عمر (ووالله إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة، أو ولو امتد إلى
صنعاء) [وروي مرفوعاً ولا يصح رفعه]، والمسافة بين المدينة وصنعاء
آلاف الكيلومترات، فنقل انتقالات الإمام لن يكون بالأسلاك، بل بالرائي أو مواقع
التواصل، فصار هذا الشرط هو المعول عليه فقط، فلا غرو أنه يبقى هذا الشرط قائماً
بانفراده، ولو لم يكن شروط المسجد والرؤية قائمة.
واستدلوا أن في حديث الدجال وجدنا أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال
أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم؛ قلنا يا رسول
الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا اقدروا له قدره) [أخرجه مسلم]، فهذا تنبيه على التقدير في الزمان، فلا إشكال إن يكون في
المكان أيضاً، ولا يقال هذا منصوص، لأن التقدير ينسحب على اليوم الذي كشهر واليوم
الذي كجمعة، وليس بمنصوص عليه، وإنما نبه عليه فحسب، فكذلك يقال في المكان.
واستدلوا بالتنظير على سقوط بعض شروط الصلاة حال العذر.
كسقوط وقت الصلاة حال الجمع، واستقبال القبلة في النافلة، فكيف لا يسقط شرعاً
وسيلة الذهاب إلى المسجد والصلاة فيه، مع حصول المقصد في البيت، لاسيما للعذر
والحاجة والتوسعة، فالشعائر عطلت، وقت لا يعلم متى تنتهي هذه الجائحة، أفلا تكون
هذه حال توجب الترخص؟! فالمسألة نازلة؛ وإن الحاجة في النازلة تنظَّر بالحاجة
للجاهل، فلو صحت صلاة الجاهل وقت الحاجة، وإن فقدت بعض الشروط، فكذا ههنا. وأنا
أميل إلى ذلك في الحاجة كنازلة كورونا، ولاسيما في النوافل كصلاة التراويح، لكن
لاأزال أدعو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف لبحث المسألة بتوسع، ولا يكون الأمر
كما فعله كثيرون ممن تكلم في هذه المسألة ولم يستوف أدلة كل طرف، وبالتالي صار
الخلل ظاهراً في طرحه، والله أعلم وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبالله التوفيق.
كتبه:
أ.د خالد فوزي حمزة