هبة آل سهيت تكتب: العقاد واللغة الشاعرة

  • أحمد عبد الله
  • السبت 02 مايو 2020, 10:33 مساءً
  • 1151


عندما نتناول شخصية كشخصية العقاد، فإننا نتناول  شخصية أديب موسوعي، ومن الصعوبة بمكان الإحاطة بكل جوانب عبقرية هذه الشخصية من جميع جوانبها، فتنوع انتاج العقاد يجعلنا في حيرة من اختيار أحد جوانب هذه العبقرية، وتنوع إنتاجه يشي بهذه الموسوعية، وهو يذكرنا بهؤلاء الأدباء العظام في تاريخنا، وأقربهم إلى العقاد -في نظري- هو الجاحظ، والذي ذكره العقاد في مؤلفاته، وإن لم يُخصّص له مؤلفًا بذاته .

 

ونختار من مؤلفاته الكثيرة كتابه الفريد من نوعه (اللغة الشاعرة)، والذي دافع فيه عن اللغة العربية، لنشاهد مقدرة العقاد الحجاجية، وثقافته الموسوعية، واستخدامه لكل علوم عصره في سبيل إقامة حجته، والإحاطة بالموضوع من كل جوانبه،  فهو كتاب فريد من نوعه -من وجهة نظرنا-  منهجًا ودليلًا يحتذى في البحث والتناول  .

 

 بدأ مقررًا عراقة اللغة العربية بحالتها الراهنة وأنها اكتملت قبل الإسلام بقرون عديدة، لأنه "لابد من أجيال طويلة لتنتهي اللغة بحالتها الراهنة المتطورة التي تملك التفرقة بدقة بين أحكام الإعراب ، وصيغ المشتقات ، وأوزان الجمع ، وتكوين حروف الجر والعطف ، وألفاظ الأسماء والأفعال وما يتولد منها  ..الخ"

 

 ثم راح يقرر أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة  التي تستحق أن يطلق عليها (اللغة الشاعرة ) ، وبدأ بتعريفنا بمصطلح (اللغة الشاعرة ) فقال:

"إنما نريد باللغة الشاعرة أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات"


وبدأ بحروف الهجاء ليبرهن أنها الأوفي باحتياجات الإنسان

"فهي لغة إنسانية ناطقة تستخدم جهاز النطق الحي أحسن استخدام يهدي إليه الافتنان في الإيقاع الموسيقي."

 

ثم ينتقل من الحرف إلى المفردة ،أو الكلمة  فيقرر موسيقية الكلمة  حيث يلاحظ  :  " في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية".

ويعطينا أمثلة على ذلك في أن الفرق بين " ينظر وناظر ومنظور ونظير ونظائر ونظارة ومناظرة ومنظار ومنظر ومنتظر، وما يتفرع عليها هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات وأفراد وجموع، وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله، يتوقف على اختلا ف الحركات والنبرات، أي: على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء."

ويقارن بين اللغة العربية والانجليزية مبينا تميز العربية على نظيرتها في هذا المجال  .

 

 ويقدم خصيصه من خصائص العربية وهى:

"أن الكلمة الواحدة تحتفظ بدلالتها الشعرية المجازية، ودلالتها العلمية الواقعية في وقت واحد بغير لبس بين التعبيرين"

 

ثم يتكلم عن الإعراب وتفرد العربية به على هذه الحالة من الكمال والاكتمال ، ويبين أهميته البالغة كعنصر شعري فيقول : " " فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية، وتستقر في مواضعها المقدورة على حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم والإيقاع"

ويستطرد استشهادا بالشعر ، وينفي تأثر العربية بغيرها ويعقد مقارنات ، ويرجع العروض الى "الحُداء" أي الغناء المفرد لحادي الإبل في البادية.

 

ويخلص إلى أن الأوزان في الشعر (البحور والقوافي )  لا نظير لها في اللغات الأخري ، ويهاجم الدعوة إلى إلغائها ، ويتهم دعاتها   بالعجز عنها أو بقصد الهدم بدعوى التجديد.

 

ينتقل بعد ذلك إلى الحقيقة والمجاز ويسهب فيها إسهابا كبيرا يبين  أن اللغة العربية متفردة في التناغم الدائم بين المعنى الحقيقي أو الحسي والمعنى المجازي ، وأن السليقة العربية سليقة شاعرة ، تستطيع المزاوجة بين المعنيين وفهم المعنى المقصود بشكل فوري وبديهي ، ويتعرض لفهم المستشرقين مبينا عوار هذا الفهم ، لاختلاف طبيعة  اللغات . ويقدم أمثلة وهو فصل ثري ومهم .

 

- الفصاحة العلمية :

فيبين أن اللفظ العربي صريح واضح ولا لبس فيه ، وهي معاني الفصاحة ، ويضرب الأمثلة المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخري منها :  "ليس فيها حرف يعبر عنه بحرفين كالذال أو الثاء اللذين يكتبان بما يقابل عندنا  التاء والهاء (th) ، ويتغير النطق بهما في مختلف الكلمات.

وخلص إلى أن الفصاحة العربية تميزت بها اللغة العربية عن سائر اللغات  إذ " أن الفصاحة العربية قد بلغت بأداة النطق الآدمية غاية ما بلغه الإنسان المعبر عن ذات نفسه بالكلمات والحروف."

 

-  وانتقل إلى الكلام عن الزمن في اللغة ليقرر أن " ارتقاء اللغة من علامات الزمن في أفعالها، فاللغة التي تدل على الزمن

بعلامات مقررة في الفعل أعرق وأكمل من اللغة التي خلت من تلك العلامات، وبمقدارالدلالة تكون العراقة والارتقاء"

 

وضرب أمثلة كثيرة على وفرة ودقة التعبير عن الزمن في اللغة العربية مثل التعبير عن : " كل لحظة من لحظات النهار والليل قد كان لها شأنها في حياة سكان البادية بين السفر والإقامة والحل والترحال، فمنها ما هو صالح لبدء المسير، وما هو صالح للراحة

القصيرة، وما هو صالح للراحة الطويلة، وما ليس يصلح لغير السكينة والاستقرار.

ولهذا وجدت كلمات البكرة والضحى، أو الغدوة والظهيرة والقائلة والعصروالأصيل والمغرب والعشاء والهزيع الأول من الليل، والهزيع الأوسط، والموهن، والسحر، والفجر، والشروقويكاد التقسيم على هذا النحو أن ينحصر بالساعات على صعوبة التفرقة

بين هذه الأوقات في كثير من اللغات الأخرى بغير الجمل أو التراكيب."

وبين استيفاء الدلالة على الوقت من الكلمات المستفادة من  التصريف والاشتقاق ،" أو من الأدوات المصطلح على تخصيصها لمعانيها، وأسلوب التعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب" وضرب أمثلة على كل نوع منها . وقارن بين اللغة العربية واللغات الاخري ، وهو فصل ممتع وثري .

 

- الشعر ديوان العرب

يقرر العقاد هنا أهمية الشعر للعربي فيقول " يرجع العربي إلى الشاعر، ولا يرجع إلى الفيلسوف أو إلى الزعيم أو إلى الباحث في مذاهب الأخلاق، ويعلم كل قارئ عربي أن الشاعر الحكيم أبا تمام إنما قرر حقيقةعلمية حين قال:

 

 ولولا خلال سنها الشعر ما درى ** بناة العلا من أين تؤتى المكارم

 

ويضرب أمثلة متنوعة على  أن الشعر العربي يمثل مخزن القيم والفضائل والأخلاق التي يمتح منها الإنسان العربي ، ويري فيه كل فرد ما يريده أو يتمنى أن يكونه ، ويجعل الضابط لكل هذا الاسلام .

 

وينتهي بقوله :

 

"وهكذا تستطيع الأيديولوجية العربية من جانبها الديني وجانبها الفني أن تقيم الإنسان على رأس طريق لا ظلام فيه! شخصية حرة مسئولة، ومجتمع يوجب المساواة في الحقوق، ولا يسمح باحتكار الثروة لفئة محدودة ولا يحرم الممتاز فرصة الامتياز، وواجب على قدر الطاقة في جميع الأحوال."

 

 وهنا يظهر فكر العقاد في غاية نضجه ، في الجمع بين العروبة والإسلام في إطار واحد ، وهذا الكتاب من أواخر ما كتب

 

- نقد الشعر العربي ومعه فصل النقد العلمي

 

وفي هذين الفصلين  ينتقد بعلمية وفهم عميق ، مقال أن الشعر الجاهلي شعر منحول ، ويفند هذه المقالة بحرفية عالية ، ويشرح الطريقة العلمية في كشف المنحول من الصحيح ، مستخدما أدوات تاريخية واجتماعية ونفسية ومعرفية وهو من الفصول التي تظهر فيه حرفية عالية للعقاد ، وأحسب أنه استفاد من علوم الدين في الترجيح ، ومتح من علوم انسانية كثيرة .

 

الشعر العربي والمذاهب العلمية الحديثة

 قام في هذا الباب بمقارنات بين القوالب الشعرية العربية وبين الموسيقى ، وبين الفرق بين الشعر العربي وبين الشعر الاجنبي ، واستخلص أن سبب وجود القوافي ، والأوزان هو أن الشعر الغربي في أصله شعر غنائي تضبطه المجموعة ، اما الشعر العربي فهو شعر المسافر المفرد على ناقته ، فهو يحتاج لضبط ايقاعه بشكل شخصي .

وخلص إلى أنه :

 "ليس عند الغرب من فنون النظم جديد نأخذ منه في أبواب التوزين والتنويع.

ليس في فن النظم جديد نأخذه من الأعاريض الغربية لم تكن عندنا أسسه العريقة ، ولم تكن عندنا أصوله وفروعه أو جذوره وأغصانه "

 

وننهي الكلام بما بدأ به العقاد في مقدمته : ""من واجب القارئ العربي إلى جانب غيرته على لغته أن يذكر أنه لا يطالب بحماية لسانه ولا مزيد على ذلك، ولكنه مطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني، بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال"

عرض هذا الكتاب في هذه العجالة ،إذ يبين عبقرية العقاد ، واتساع دائرته المعرفية ،فإنه لا يفي  بحقه في التعريف .

تعليقات