باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
وصحبه....
أما بعد..
فقد تناولت في المقال السابق ما يتعلق بالحجر الصحي وإغلاق المساجد، ولم اشأ أن أقوم بترجيح بين المؤيدين أو المعارضين لهذا الأمر، لكن ليعلم أن ثمة أوقات مرت على الصحابة فمن بعدهم كانت تؤثر على صلواتهم، ففي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام قال فقلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا قال فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا).
كما أن الحجاج أخاف العديد من العلماء، ولاسيما بعد فتنة ابن الأشعث، حتى وضع الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي كتابه (المتوارين)، وقد ذكر فيه من كان متوارياً مختبئاً يصلي في البيت، خوفاً من ظلم الحجاج، وذكر أنه (كان مجاهد وأبو عياض متواريين من الحجاج فلما كان يوم الفطر أمهم أبو عياض)اهـ، فهو بظاهره أنه أمهم في عيد الفطر، ويقوى عندي أنه خطب بهم كذلك، والجمعة عيد، وتجتمع مع العيد في كثير من الأحكام.
ثم تتالت على الأمة أيام ظهر فيها الطاعون، ولم تغلق المساجد لأجل عدم معرفتهم المتيقنة أنه ينتشر بالتلامس، وإن كان الأطباء آنذاك يذكرونه، والواقع يشهد به، لكن لم يكن ذلك متيقناً به في الأمر الفقهي، فلم يكن بأيديهم إلا المساجد للدعاء والتضرع حيث لا جزم بكونه ينتقل بالملامسة.
فعرف عنهم أنهم كانوا يجتمعون في المساجد للدعاء، ومن أمثلة ذلك ما كان في أول وباء عام (749هـ)، فقد قال في النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة [3/145]: (فاجتمع الناس في المساجد)، ويؤرخ ابن العماد في شذرات الذهب في أخبار من ذهب [3/279] في ذكر وباء عام (449هـ)، فيقول: (ووقع الوباء بأذربيجان وأعمالها والأهواز وأعمالها وواسط والكوفة وطبق الأرض حتى كان يحفر للعشرين والثلاثين زبية فيلقون فيها وكان سببه الجوع وباع رجل أرضا له بخمسة أرطال خبز فأكلها ومات في الحال وتاب الناس كلهم وأراقوا الخمور وكسروا المعازف وتصدقوا بمعظم أموالهم ولزموا المساجد وكان كل من اجتمع بامرأة حراما ماتا من ساعتهما).
ومع ذلك كانت بعض الأوقات تغلق فيها المساجد في مختلف الكوارث، ولعل أشهرها في فتنة دخول التتار إلى بغداد، ففي البداية والنهاية لابن كثير، [13/236]؛ وعقد الجمان في تاريخ أهل الزمان للعيني [1/42] في حوادث عام (656هـ) : (وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والائمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده)اهـ
ووجد غلق المساجد أيضاً في كوارث الأوبئة، كما حدث في وباء عام (448هـ)، فقد قال الذهبي في سير أعلام النبلاء [18/311] عن عاصمة الأندلس قرطبة: (وكان القحط عظيما بمصر وبالأندلس، وما عهد قحط ولا وباء مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مصل، وسمي عام الجوع الكبير)، وأرخ الذهبي نفس الموقف في تاريخ الإسلام [30/25] في حوادث عام (448هـ)، لكن في حاضرة أخرى من حواضر الأندلس، وهي إشبيلية، فقال: (وفيها كان القحط العظيم بالأندلس والوباء. ومات الخلق بإشبيلية، بحيث أن المساجد بقيت مغلقة ما لها من يصلي بها. ويسمى عام الجوع الكبير).
وأيضاً حدث ذلك في مصر في وباء آخر، ففي النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لابن تغري بردي، [3/145]؛ وكذا السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي: [2/155]؛ ففي حوادث عام (749هـ)، كان (في شعبان: تزايد الوباء في القاهرة، وعظم في رمضان، وقد دخل فصل الشتاء فرسم بالاجتماع في الجوامع للدعاء. ..... وبطلت الأفراح والأعراس من بين الناس، فلم يعرف أن أحداً عمل فرحاً في مدة الوباء، ولا سمع صوت غناء. وتعطل الأذان من عدة مواضع، وبقي في الموضع المشهور بأذان واحد.... وغلقت أكثر المساجد والزوايا. واستقر أنه ما ولد أحد في هذا الوباء إلا ومات بعد يوم أو يومين، ولحقته أمه).
كما تكرر الأمر في مصر في وباء آخر، لكن لمدة أقل، فقد أرخ الجبرتي في كتاب عجائب الآثار [3/484]، في حوادث عام (1230هـ)، قال: (واستباح الناس أموال بعضهم البعض وكان هذا الحادث الذي لم نسمع بنظيره في دولة من الدول في ظرف خمس ساعات وذلك من قبيل صلاة الجمعة الى قبيل العصر حصل للناس هذه المدة اليسيرة من الانزعاج والخوف الشديد ونهب الاموال واتلاف الاسباب والبضائع ما لا يوصف ولم تصل الجمعة في ذلك اليوم وأغلقت المساجد الكائنة بداخل المدينة). لكنها كانت مدداً يسيرة في الجملة في إقفال المساجد رغم أنها قد تستمر الطواعين مدة، قال المقريزي في طاعون عام 749هـ: ويقال إن هذا الوباء أقام على أهل الأرض مدة خمس عشرة سنة [السلوك لمعرفة دول الملوك 2/158].
هذا بخلاف ما يكون من حظر التجوال العام الذي تفرضه الحكومات
إبان الحروب أو الاضطرابات السياسية، ونحو ذلك، وإن كان هذا لا يستمر كثيراً
أيضاً، في غالب الأمر.
إن هذا الوباء (كورونا) قلب الكثير من الموازين الدولية، وهو مما يتعجب منه، بل ربما لم يعلم بجائحة قلبت الموازين العالمية هكذا بهذه السرعة، حتى اجتياح الدول كاجتياح الإسكندر في عشر سنين، والمغول والتتار في نحو سنة؛ قال ابن الأثير في اجتياح المغول: (هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحداً، إنما رضي من الناس بالطاعة؛ وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلاً، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة، في نحو سنة) [الكامل في التاريخ لابن الأثير 5/305]، وهذا كله إن كان سطره المؤرخون بعبارات الأسى، وإن كان التغيير بسبب (كورونا) أسرع من هذا الذي ذكر بكثير؛ إلا أننا نسطره بعبارات الرجاء. والحمد لله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبالله التوفيق.
كتبه
أ.د. خالد بن فوزي حمزة