شعبان القاص يكتب: الشعر الجاهلي وصف أم اسم

  • جداريات 2
  • الخميس 30 أبريل 2020, 10:52 مساءً
  • 938

يرغب البعض في عدم إطلاق لقب "الجاهلى" على شعر العرب قبل الإسلام ، ورغم أنهم يدركون أن المعنى المقصود ليس جهل القراءة والكتابة أو الصنعة ، ويستنكفون من اللقب كونه ذا صبغة دينية ، بينما لا يكف أحدهم من القول أن للشعر رسالة ، وأنه يقدم فكراً وفلسفة ودعوة للثورة أو التغيير ، أو موقفاً من قضية ما ، وليس مجرد أداة للتطريب!

إذن فقد كان للشعر الجاهلي رسالته ودعوته وأفكاره وأخلاقياته وفلسفته ومواقفه من كل القضايا.

ولعل ممن تناولوا هذه القضية بشكل جيد ومهم – في حدود قراءاتي -  الشاعر أشرف البولاقي في كتابه "حوار مع صديقي المؤمن" :

"لكن ما هو جدير هنا بالالتفات أن القرآن لم يواجه نصوصًا شعرية، لكنه واجَه أنساقًا فكرية، وآليات تلَقٍ، وكانت مهمته نسف تلك الأنساق، وتغيير تلك الآليات.

ويؤكد الدارسون والباحثون أن القرآن انتصر تمامًا، في عصر النبوة، في مواجهته تلك، والتاريخ والشواهد يؤكدان انتصار القرآن وتراجع الشعر، لكن بانتهاء عصر النبوة، عاد الشعر أكثر قوةً واشتعالا، بسبب حاجة العرب إليه في حروبهم وملاسناتهم التي ما كانوا يستطيعون خوضها دون سلاح الشعر، وعاد الشعراء مرة أخرى يحتلون مكانتهم على حجور الخلفاء والأمراء" انتهى.

وعلى ذلك يمكننا أن ننتقد الشاعر في فكرته كما ننتقده في صنعته، فكما نقول إنه شاعر ضعيف، نستطيع أن نقول إنه جاهلي، إذا ما تماهى مع شعراء ما قبل الإسلام.

 العربُ في الجاهلية، كما يؤكد أ. د. علي القاسمي في دراسته عن العقل العربي، كانوا يَرفضون الاعتراف بالخطأ، ويَعتبرونه خطاً أحمر . فهُم يَنظرون إلى «الاعتراف بالخطأ» على أنه إهانة للفرد، وتدنيس لرمزية القبيلة ومكانتها، وتدمير للمنزلة الاجتماعية، وخضوع للآخرين، وتسليم بشروطهم، لذلك كان العربُ يترفعون عن الاعتراف بالخطأ، ويتكبرون على الحق، بدافع العصبية القَبَلية وعوامل أخرى ذات صبغة شخصية ومجتمعية، وهكذا تتجلى حَمِيَّةُ الجاهلية في أعنف صورها، وتبرز في المرجعية الذهنية، وتَظهر في التطبيقات الواقعية.

لذا نجد الشاعر طَرَفة بن العبد يعيش حياته بالطُّول والعَرْض دون حساب، وعندما يغرق إلى شحمة أذنيه في مشكلاته الشخصية، وأزماته الاجتماعية والاقتصادية، ساعتها يتذكر قدرةَ رَبِّه اللامحدودة، فيقول:

فلوْ شاءَ رَبِّي كُنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ

ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن مَرْثَدِ

 فحينما اشتد عليه الخِناقُ، وضاقت عليه الأرضُ بما رَحُبت، ووَجد نَفْسه عاجزاً أمام ضغوطات الحياة اليومية، أخذَ يفكِّر في قُدرة الله تعالى، ويَبني عقيدته وفق المشيئة الإلهية.

 فهو يقول إن الله لو شاءَ لجعله قيس بن خالد أو عمرو بن مرثد . وهذان رَجلان من سادات العرب في الجاهلية، مشهوران بكثرة الأموال ، وذكاءِ الأولاد ، وشرفِ النَّسَب ، وعِظَم الحسَب.

 لقد أدركَ طَرَفة حجمَ المأزق الذي يَغرق فيه، فلم يَعترف بتقصيره، أو بأخطائه، أو سوءِ تصرفه الذي أورده المهالك . بل هربَ إلى الأمام، وذلك بالتعلق بالمشيئة الإلهية. وكأنه يقول إنه لا ذَنْب لي في وصولي إلى هذه الحالة المزرية. فلو شاءَ اللهُ لجعلني سيداً من سادات العرب، ولكنه لم يشأ ذلك. إذن، فالمشيئةُ الإلهية لا يمكن مقاومتها،وأنا لا ذَنْب لي بالموضوع. وهكذا يتملص_وفق منظوره الشخصي_ من كل مسؤولية ولَوْم .

وهنا يَظهر قصورُ الفهم في موضوع المشيئة الإلهية ، ويبرز الخلطُ بين مشيئة الله تعالى بمعنى تعلُّق إرادته بوقوع شيء ما ، وبين مشيئة الله.

 

كان الصراع بين القبائل يَحمل صبغةً هستيرية قاسية ، فلا توجد ضوابط لهذا الصراع الدموي، ولا توجد حدود للحروب القَبَلية . فكلُّ شيء مسموح في هذه الحروب الطاحنة ، والغايةُ تبرِّر الوسيلةَ. والمهمُّ أن تَعلوَ كلمةُ القبيلة ، ولا تَسقط مهما حَصَلَ . فالقبيلةُ هي حَجَرُ الزاوية ، وهي رأس الأمر في الجاهلية . وكلُّ القدرات مُسخَّرة لحفظ مكانتها ، وإعلاء شأنها بين القبائل .

 يقول الحارثُ بن حِلِّزة :

فَهَداهم بالأسْوَدَينِ وأمرُ اللهِ          بِلْغٌ تَشْقَى بهِ الأشقيــاءُ

يُعطي الشاعرُ وصفاً سريعاً للعسكر . فقادَ هذا العسكر ، وزادهم التمر والماء ( الأَسْودان ) ، أي إنهم جهَّزوا أنفسهم بالتمر والماء ، وذلك لكي يَحصلوا على القوة ، ويَستطيعوا الوقوفَ في وجه الأعداء . وكلُّ قوةٍ عسكرية بحاجة إلى تموين وتغذية جيدة كي تَقْدر على أداء دورها بشكل فعَّال . والتمرُ والماءُ هما مَصدرا الطاقة للعسكر والجيوش .

ويُبرِز الشاعرُ عقيدته في الله تعالى ، فهو يَعتقد أن أمرَ الله بالغٌ مَبالغهِ يَشقى به الأشقياء في حُكمه وقضائه . ولا شيء يَقف في طريق الأمر الإلهي . فأمرُ اللهِ نافذٌ لا محالة ، لا يُوقفه شيء . ومَن كُتب عليه الشقاءُ فسوفَ يَكون من الأشقياء ، ولا فرصة أمامه للهرب .

. وهو بذلك يُحاول جعلَ أمر الله في صَفِّه وصَفِّ قَوْمه _ إن جاز التعبير _ ، وضد الأعداء . وهنا تبرز قضية غاية في الخطورة ، وهي توظيفُ العقيدة الدينية لصالح العَصَبية القَبَلية . وكأن الشاعرَ يَهدف إلى ” احتكار أمر الله ” لصالحه وصالحِ قَوْمه. فَمَن عادى قَوْمه فقد أدخل نَفْسَه في دائرة الشقاء الأبدي ، لأن اللهَ غالبٌ على أمره ، وأمرَه سَيَبْلغ مَبالغه ، ولا توجد قوة قادرة على مواجهته . وهكذا يَظهر لنا قضية توظيف الدِّين لخدمة الدنيا ، واستخدام العقيدة لتحقيق أغراض شخصية ، ومصالح قَوْمية .

 ومن صورالعصبية العمياء للقبيلة، والانقياد لأهوائها ماعبر عنه الشاعرالجاهلي أصدق تعبير في هذا البيت:

 وما أنا إلا من غُزية إنْ غَوت    غَويت، وإنْ ترشُدْ غُزيّةُ أَرشدُ

 

معظم أيام العرب في الجاهلية التي شاركت فيها كثير من القبائل العربية، كان سببها غزو بعضهم البعض بقصد السلب والنهب. فيوم الرغام، مثلاً، كان في الأساس " إغارة بني ثعلبة من قبائل تميم على طوائف من بني كلاب لسرقة إبلهم. وبعد أن سرقوها، لحقت بهم بنو كلاب فأدركتهم ووقع القتال بين الطرفين.

 ووقع يوم جِزع ظلال  بعد أن أغار بنو فزارة على بني عبد مَناة،  وملئوا أيديهم غنماً وإبلاً ونساءً.

 ويوم ذات الأثل كان بسبب غزو بني سُليم لبني أسد من خزيمة ونهب إبلهم.

 

والذي يثير انتباهنا وعجبنا في يوم الأثل هذا أن قائد غزوة بني سُليم  هو زعيمها صخر بن عمرو بن الشريد، وقد جرح في المعركة وبقي طريح الفراش مدة طويلة ثم مات. وبعد موته فُجعت أخته غير الشقيقة الشاعرة الخنساء (ت 24هـ/645م)،  فأقامت الدنيا ولم تقعدها على هذا الزعيم " الجواد، الشهم ، الجرئ، الفتى، إلخ من أوصاف النبل والشرف "، كما وصفته في مرثياتها الكثيرة، ولم تقلل إغاراته العديدة للسلب والنهب من مقامه في عينيها ولا من محبته في فؤادها. ويدلنا هذا على أن السرقة لم تعُد في ذلك الوقت عاراً لدى كثير من قبائل العرب في العصر الجاهلي.

لنستمع إلى بعض أبيات مقتطفة من مرثيات الخنساء الكثيرة:

 

       أعيني جودا ولا تجمدا       ألا تبكيان لصخر الندى؟!

 

      ألا تبكيان الجرئ الجواد      ألا تبكيان الفتى السي

لقد حفظنا  قصيدة الخنساء السينية في رثاء أخيها صخر. ولم يشرح لنا أحد ـ مع الأسف ـ أن صخرا جُرح (ثم مات) في إغارة للنهب والسلب على عشيرة أخرى، على الرغم من أن بعض الكتّاب اليوم يحاولون تبرير فعلته على أنها ثأر للشرف. فنحن العرب نلمّع تاريخنا وننقيه من الشوائب ونميط عنه العيوب والمخازي، بدلاً من دراسته بصورة موضوعية لنفهم أسباب القوة وعوامل الضعف. وهذا من أخطاء المنهجية التربوية المتبعة في بلداننا العربية، فهي  تؤدّي إلى نوع من الشوفينية، وترسِّخ الاعتقاد بأننا دائما على صواب، وأن الأخر على خطأ. إن الدراسة الموضوعية للتاريخ تساعدنا على تكوين جيل يؤمن بأننا بشر نصيب ونخطئ، وان من المحتمل أن يكون الآخر على صواب، فنحن لا نملك الحقيقة الكاملة ولا نستأثر بها. وهذا المنهج الموضوعي يؤدي إلى تنشئة أجيال تتحلى بالتسامح، والتفاهم، والاحتفاء بالتنوع، وقبول الآخر، وهذا ما جاء به الإسلام.

 

تقول الخنساء في قصيدتها السينية:

 يؤرقني التذكُّر حين أمســـــي              

 فأُصبح قد بُليتُ بفرطِ نُكسي

على صخرٍ، وأيُّ فتى كصخرٍ              

 ليوم كريهةٍ وطعانِ حِلسِ ...

 ولولا كثرةُ الباكين حولـي          

 على إخوانهم لقتلتُ نفســــي

 

      وما يبكون مثل أخي ولكن           

      أُعزّي النفسَ عنه بالتأسّـي...

 وهكذا نرى أن ما قام به صخر من إغارة بقصد السلب والنهب، لم يقلّل من فتوته وجوده وشرفه في عيني أخته الخنساء، فذرفت عليه الدمع مدراراً، وناحت عليه مراراً، كما لو كان مثالاً للعفة والأمانة والاستقامة؛ ما يدل على أن أعمال السرقة لا تُعدّ عاراً ولا شناراً في عيون كثير من أجدادنا العرب في الجاهلية.

يقول أحدهم :

   وكم بيتٍ دخلتُ بغير إذنٍ     وكم مالٍ أكلتُ بغير حلِّ!

 

وبعد أن يقف الإنسان على بشاعة السرقة لدى أهل الجاهلية، وتفاخر بعضهم بها وعدم اعتبارها عاراً، يدرك لماذا جاء الإسلام بأقسى عقوبة للسارق، إذ ورد في القرآن الكريم

 (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله، والله عزيز حكيم.) (المائدة: 38)

ومن يدرس معاني كلمة (نكال) في مختلف سياقاتها، يجد أن معناها ليس (العقاب) فقط وإنما تعني العقاب القاسي الذي يؤدي إلى المنع والردع. وفي آخر هذه الآية تذكير لنا بأن وراء هذا العقاب القاسي حكمة وهو تخليص المجتمع من هذه الجريمة النكراء.

 

وتحدثنا السيرة النبوية أن امرأة مخزومية شريفة سرقت في عهد النبي (ص)، فأراد أسامة بن زيد أن يشفع فيها فغضب النبي (ص)، وقال: " أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! إنما أهلكَ الذين من قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الغني تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها ." (البخاري: أحاديث الأنبياء 3216).

 

فهذه العقوبة الصارمة إنما قررها الإسلام لوضع حدٍّ لجريمة تفتُّ في المجتمع ويفتخر بها كثير من الناس. ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن تفشي السرقة دون عقاب يؤدي إلى اضعف الدول بحيث تمسي (دولة فاشلة)، كما يطلق عليها اليوم. 

ورغم أننا نجد الشاعر زُهير بن أبي سُلمى قد وصلَ إلى حقيقة أن اللهَ محيطٌ بكل شيء ، وأن عِلْمه شامل لكل الأشياء ، ولا يمكن أن يحدَّه حَد . فاللهُ مُطَّلع على خبايا النفوس. والإنسانُ هو كتابٌ مفتوح أمام خالقه ، ولا يمكن إخفاء شيء عنه ، فيقول :

 

فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم         لِيَخفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ وإِنّي

 

إلا أنه كان أخطر الهجائين في الجاهلية، ولعل الهجاء كان من أشد الأغراض الشعرية البائدة شيوعا للخصومة بين القبائل، ولاعتقاد العرب فيه، كان الشاعر يصبه صبا على العدو، فينال من

أعراضهم،ومروءاتهم، ويثير عليهم الأرواح الشريرة، ويسلط عليهم الشياطين التي تمده بهذاالشعر، ولما جاء الإسلام اعتبر الهجاء جريمة.

نعم كانت هناك إستثناءات قليلة من الشعر الجاهلي تخلصت من هذه الصفات ، التي يستقبحها كل عاقل في كل زمان ومكان ، ولكنها استثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها ، أن الشعر العربي قبل الإسلام استحق هذا اللقب وصفاً و تسميةً.

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات