هل يتعمد إبراهيم عيسى تشويه التاريخ الإسلامي؟ (فيديو)
- الخميس 21 نوفمبر 2024
الكاتب بستاني النداف
عند سماعها لأذان الفجر لم تستطع "شامخة " رؤية زوجها محمد السكيان نائماً جوارها لليوم العشرين دون عمل ،فقامت بوخزه في كتفه
- قوم يا راجل صلي الفجر.
أطلق ضحكة مدوية ملأت أرجاء المكان ثم عاود نومه .
ازداد حنقها فباغتته "بزغدة " قوية في رقبته حين ملأت يدها الغاضبة من لحمه وضغطت على ما امتلكته بإصبعيها السبابة والإبهام ، كان الشرر المتطاير من عينيها واصطكاك فكيها العلوي والسفلي يظهران مدى قوة تلك "الزغدة".
لم تؤثر "زغدتها" في رقبته، ولم يتعامل معها إلا كناموسة ضعيفة حطت فوق عنقه الممتد كشارع أسفلتي طويل رسمت شموس نهارات قاسية عليه علامات من السواد المتفحم، فما كان منه إلا أن قام بضرب يدها ليهشها عنه ثم استلقي على جنبه الثاني وأخذ في إخراج ضحكة أخرى مدوية جلجلت في أرجاء المكان.
أطالت "شامخة " النظر في وجهه ملياً وتأكدت من نومه العميق عبر ضوء المصباح الذي استطاع أن يمرق بصعوبة من بين أعواد الذرة المتفلتة التي تغطي سطح حجرتهم المطلة على العراء الموحش التي لا يؤنسها فيها سوى صوت شخير زوجها المزعج وأنات رضيعها المتكررة من ضربات البرد والجوع تلك الآنات التي تخترق الجدران الطينية المكشوفة المكونة للحوش الفسيح، صوت نقيق الضفادع يصنع موسيقى مزعجة لا تنتهي تتألف مع سواد الليل الداجن القابع على قلبها كحلقات اكتئاب ربطت بسلاسل حديدية بأنواع من الهموم التي لا تنتهي.
يحاول ديك الفجر الرابض بجوار " الطلمبة " التي تتوسط "الحوش " أن يساعدها في إيقاظ زوجها وخلق حالة من الأنس لها ببث بعض من صوته العذب إلا أن البرد قد فعل فعلته به؛ فخرج صياحه نقيقاً مزعجاً جعله يتوارى خجلاً مما حل به من زكام فما كان منه إلا أن أسقط حالة خجله وغيظه المكتوم بالقيام بضربات متتالية للدجاجات الثلاث النائمات نوم جارهن السكيان في سباته العميق .
ينجح الديك في إيقاظ السكيانات الثلاث وتدور معركة حامية الوطيس بينهم جميعاً.
وسط هذه السيمفونية السخيفة من تعارك الدجاج ونقيق الضفادع وصوت شخير "السكيان " تخرج صرخات الرضيع مدوية لتظهر أن هناك معركة أخرى طاحنة تدور بين مصارين بطنه التي أرهقها الجوع.
الصرخات المتتالية تجعل "شامخة" تضع يدها المرتعشة فوق صدرها عله يحن ببعض قطرات اللبن ، لكن الصدر جف نبعه كعين ماء فقدت هويتها منذ أمد بعيد . الصدر يستجدي البطن المترنحة بأي وقود يطعم من خلاله الرضيع .
عيناها الزائغتان من شدة الوهن تنظران في المكان ربما يوجد أي شيء من بقايا الطعام ،حنينها يجبرها على التحرك في المكان والمحاولة فيما ألقي بعيداً عن الذاكرة في غفلة يوم شبع ربما قد مر عليهم ،تتحرك "شامخة" بوهن شديد كعجوز في أرذل عمرها باحثة عن ضالتها، أي شيء يقيم أودها ويساعدها على حلب ضرعها اليابس ،تخمش بيديها آخر ثلاث بلحات مخزونات في الدار تبقين منذ الصيف الماضي ،
الأمل يمدها بشيء من شبابها الذي فقدته ويكسبها سرعة تجري بها نحو "الطلمبة " لغسل البلحات، تمسك بيد "الطلمبة " بعزيمة تحاول بها أن تهزم ما حل بها من خوار ، ينفلت الحبل الممسك "بالرضاخ" الذي يجلب الماء من أسفل ويلقي به إلي فوهة "الطلمبة "، تمسك بحلقة الرضاخ الموجودة من أعلى وتربطها بيد الطلمبة ، وبسرعة تحاول يداها المرتعشتان الضغط على يد الطلمبة لكن دون جدوى ،كانت صرخات رضيعها تزداد فيزداد توترها ، الرضاخ الذي يشبه رأس أفعى يعض سبابتها فيتملك الألم منها وتشعر أن إصبعها المتجمد قد شق لنصفين فتقرب سبابتها من فمها وتنفخ فيه.
دموع تترقرق من عينيها ،تنظر إلي السماء بحديث تفهمه السماء فقط ثم تعيد إصبعها لفمها وانتفاضة شديدة تتملك من بقية أصابع يدها ورجفة عميقة تصيب جسدها.
نظرت إلي جلبابها البالي الذي ترتديه ومالت بقوة وأخذت شريطاً "دهبان" متدليا من الجلباب وقطعته بسرعة وكأنها تقطع خيط عنكبوت ، ثم ربطت إصبعها.
كان صليل إصبعها يدفعها إلى حافة الانهيار ، لكن ثمة صرخات لرضيعها تجعلها تستدعي كل لحظات القوة من وجدانها لتلحق بسرعة بيد الطلمبة فتضغط بقوة عليها فتحركها ببطء شديد ثم تضغط عليها مرة ثانية ثم ثالثة ثم رابعة فتزداد سرعة يدها فيخرج الماء متثائباً ،تغسل البلحات الثلاث بسرعة ،ثم تهرول لتلحق بالرضيع .
وضعت حلمة صدرها في فمه الجائع ،حينها قضمت "البلحة" وقسمتها لنصفين فرأت شيئاً يتحرك داخل فتيلها . نظرت إليه بقوة فتأكدت مما رأت إنها دودة.
دودة عندما تراها تسير داخل شق البلحة تبدو كملكة مختالة في شارع صنع خصيصاً لها، ترتع فيه ببطء ، تنظف باطن الشارع بإصبعها وتزيحها بعيداً ثم تنفخ في البلحة بزفرة قوية وبكل رضا تضعها في فمها، يستقبلها اللسان الذي كاد أن يصاب بقرحة من قلة الطعام ، بينما ألم يعصف بأسنانها فتكمل الضغط والإرسال ما بين الأسنان والضروس واللسان الجريح لتتم عملية إرسال "بلحة" لتكون رسول سلام لمصارين البطن المتقاتلة لتمنح أملاً في انتظار إرسال المزيد لتلك البطن الخاوية .
لم يكن حال الثانية بأفضل من الأولى حين اصطكت الأسنان وتمت عملية الإرسال الثاني برسالة مفادها أن العالم بالخارج مازال بخير وأن الأمل قادم يشق الطريق .
تترك الثالثة لزوجها كي يسد بعضاً من رمقه وتساعده في أن( يصلب) طوله في العمل – إن وجد عملاً - هذا الصباح .
الضرع لم يجلب لبناً بعد والطفل يلفظه بشدة ؛ يترك الحلمة ويزداد صراخه فتحاول تهدئته
-" هوو وه...هوووه .....نام ...يا حبيبي نام ...وادبحلك جوزين حمام "
فيزداد صراخه فتستمر الأم في الغناء .
- حبيبي ركب الحمار ...حبيبي ساق الحمار ...حبيبي راح للجزار ...جب لامه كيلو لحمة .
لم يفلح الغناء ولا التهدئة في إيقاف الرضيع عن الصراخ ، فتنهمر دموعها وتستمر في الغناء بصوت أقرب إلى النشيج
- حبيبي ركب الحصان ...حبيبي ساق الحصان ...حبيبي راح الدكان ...جب لامه لفة سكر.
فشلت الأغاني في إسكاته واستمر في الصراخ .
تنظر الأم لزوجها النائم وتباغته بوضع رضيعها بجوار أذنه فيقوم منزعجاً وغاضباً ومزمجراً، يصرخ فيها
- سكتي ابن الفطيس ده.
تنظر إليه بعيون متنمرة مستعدة للقتال وتصرخ فيه
- سكته انت ،مش انت ابوه، ولا كل الهم عليَ أنا .
في هذه اللحظة كانت البلحات قد فعلن بالجسد فعلهن وكان اللطف الإلهي قد حل بالضرع فأخرج لبنا ؛ تلقفه فم الصغير بسرعة .
الدموع تترقرق في حنين ، تنحدر من عينيها على جبين الرضيع ،تمسك براحتيه الناعمتين وتقبلهما . يملأ اللبن جوفه ،يعاتب الصدر على هذه القطيعة وهذا الغياب ،يرتسم البؤس على وجنتيه .
ينظر "السكيان " في ذهول ثم يطأطئ رأسه لأسفل ناظراً إلى الأرض في أسف شديد.
تمسك الأم بالبلحة اليتيمة ثم تعطيها له . يمسك بها، يشطرها لنصفين، لكنه ينظر إليها ولطفلها القابع على صدرها فيمدها إليها، فتشيح يده بعيداً عنها وتعيدها إليه ، يفتح فمه بصعوبة ويلقي بشطر البلحة ويضع الأخرى في جيبه، تضغط أسنانه في خجل .
السكون يفرض نفسه عليهما .يلمح يدها المربوطة بالشريط أسفل ظهر الرضيع يمسك يدها وينظر إليها ،فتجيبه قبل السؤال
- " الرضاخ ".
فيبادرها بقوله
- أهي الدنيا عامله معانا زي الرضاخ كل يوم تعض فينا ومش عارفين أخرتها ايه
تنظر إليه وتبتسم ابتسامة ساخرة وتقول
- أشوف كلامك اصدقك ،أشوف ضحكتك انت ونايم استعجب .
فينتبه لها
- هو انت سمعتيني وأنا بضحك، كان حلم جميل يا سلام لو يتحقق .
تمصمص شفتيها في غضب ثم تقول في صوت غاضب
-قول ،قول ، اللهم اجعله خير .
فيقول
- بلطية !!!
فتنظر إليه غاضبة وتقول :-
- "الجعان يحلم بسوق العيش "
فيرد بحنق
- جد يا وليه ، دي حتة بلطية مشفتش زيها في حياتي .
فتغمغم وقد بدأت الشكوك تساورها
- "بلطية ولا .....!!!!!
تقولها وقد اتسعت عيناها وارتفع حاجباها في غضب.
ينظر في بؤبؤ عينيها ثم يضحك ويقول
- ميروحش عقلك لبعيد !! دا انت كل ستات الحسن والجمال ما يجوش جنبك حاجة .
فترفع حاجبها لأعلى في دلال
- يمكن عروسة بحور
فيباغتها
- محدش يملا عيني غيرك يا أم الخضر .
ومثل كل نساء الأرض يأكل الكلام الحلو أذنيها فينال من نفسها وتنسي ما أصابها من ألم الجوع ،فتمسح دموعها وتضحك كأنها لم تر قط لحظة بؤس في حياتها .
يستطرد أبو السكيان بعد أن اطمئن لما آل اليه حالها من سعادة ورضا
- قالتلي تعال انزل وخد شوال عيش وايش عدس وفول وخضار ولحمه
تضرب بيدها على صدرها في وجل
- أوعي يكون نزلت ،انت ناسي انك موش بتعرف تعوم ،أوعي يا خويا ليكون غرقت .
فيقول
- كنت حاغرق لولا سيدنا الخضر نجاني ...
فتتمتم
- شي لله يا سيدنا
فيردد
- يا سلام على سيدنا الخضر .
فتقول
- سيبك من الأحلام واطلع يا خويا شوف يوميه وأنا حاطبخلك أحلي لحمة .
فيقول
- لحمة !!!!
فتقول
- لحمة الفقرا، عدس !!!
فيقول
- فيها لحم بجد وعد س وفول وخضار ودي حقيقة موش هزار !!!!
يعلو صوته ثم تربت على كتفه
- مصدقاك ،مصدقاك ،روح يا خويا ربنا يهديك ،ويفتحها في وشك .
يخرج أبو السكيان فعلا، فلا يجد عملا، يطول به الانتظار على كوبري البلد حتي تأكل الشمس من رأسه وتتكاثر عليه الأسئلة ، ينطق بها دون أن يدري
- أواجه شامخه وخضر ازاي ، أرجع للبيت !من غير أكل !أرجع لـ الدكان اليتيم في البلد ، طيب ازاي والدين كتر... أمد ايدي، أشحت واقول لله يا محسنين !
يسراه تمسك يمينه حين يفرك بأصابعه راحة يده ، يري رجلين قادمين ، اللسان يحاول النطق..
- لله ... لله ...
فيقولان في نبرة واحدة
- بتقول ايه يا أبو السكيان !
فيرد
- لله الأمر من قبل ومن بعد.
فيردان
- ونعم بالله ....
ويمضيان في طريقهما .
يسند ظهره إلى حافة الكوبري الحديدي ويلقي برأسه إلي الوراء ،تأخذه سنة من النوم ،يرى البلطية تتقافز أمامه في الماء وتقول
- تعال...تعال .
يستيقظ فلا يراها ، يعطي ظهره للبلدة ويتحرك إلي "الموردة " المؤدية إلي البحر .
يجد البلطية أمامه تناديه :
- تعال ...تعال .
لا يتردد ،ينزل للماء ،يخوض فيه ،لا يظهر منه شيئا، يبتلعه البحر .
يئس أهل القرية من العثور على جثته بعد طول بحث حتى حل الظلام .
"شامخة " تنوح على زوجها
- يا شقانا من بعدك ، يا نخلتنا المضلله علينا يا أبو السكيان ،هاتسيبنا لمين!
تنام بيوت القرية في بحر الظلمات وتبدأ الضفادع في عزف سيمفونيتها ،يقطعها صوت الرضيع ،
أقدام مسرعة تطوف حول الدار ثم تسمع "شامخة " طرقات على الباب فتصرخ
- "مين ؟"
لا يرد أحد وتتكرر الطرقات ثم تسكت مرة واحدة. الفضول هزم خوفها قامت لتفتح الباب .
بيد مرتعشة وبوجيب قلب خائف فتحت الباب ولم تجد أحداً ، همت بغلق الباب، رأت جوالاً مليئاً بالعيش والعدس والفول والخضار واللحم وشق التمرة اليتيمة التي دسها أبو السكيان في جيبه . تنظر يمنة ويسرة فلا تجد أحداً ،تأخذ الأشياء وتدخل تقبل ابنها الخضر وتضع شق التمرة في فمها فتجد لها طعماً رائعاً ورائحة فيها كل طيب الدنيا، تغمض عينيها من فرط حلاوتها ،ينسال اللبن من صدرها فيلتقم الرضيع حلمتها فتدحجه بنظرة ونصف ابتسامة وتقول :
- شي لله يا سيدنا .