هل يتعمد إبراهيم عيسى تشويه التاريخ الإسلامي؟ (فيديو)
- الخميس 21 نوفمبر 2024
الكاتبة هبة آل سهيت
مصرع ذبابة
استيقظت صباحا والجوع ينهش أحشائي ، مسحت وجهي بأطرافي الدقيقة، فتشت في جُحري الصغير عن أي بقايا طعام ، أو
حتى لقمة عفنة تسد رمقي ، فلم أجد ، فمنذ خمسة
أيام ، لم يدخل جوفي طعاما ، ولقد ذهب والداي في يوم أسود ليحضرا لي الطعام ، ولم
يعودا ، يومها بكيت كثيرا ، وانتظرتهما حتى ملَّني الانتظار ، وبحثت عنهما في كل جُحر
وكل ثقب أعرفه في الحاره ، لكنني بعد أن
يئست من عودتهما ، فأنا أقوم يوميا بزيارة كل منازل الحارة البائسة ، ذات الأبواب
والنوافذ المفتوحة دائما ، أتطفل على موائدهم ، وأشاركهم الخبز اليابس، والطعام
القفار.
أحيانا لا يكترثون لتطفلي ،
ويتركونني أتذوق خبزهم الفقير ، وأحيانا يلوحون في وجهي بأيديهم لأفارقهم ، فأخرج
مسرعا ، لكنني أعود مرات ومرات ، حتي أنال لقمتي الصغيرة .
والناس في حارتي ، أناس طيبون ، يأكلون قليلا ،ويتكلمون كثيرا ثم يتجمعون كل مساء ، في الطرقات الترابية ، على
حواف برك ماء المجاري التي تنتشر في طرقات الحارة ، كبقع في الجلد الأجرب ، ،تزكم أنوفهم الروائح الكريهة ، لكنهم لا يدركون أنها كريهة ، يثرثرون ، ويضحكون حتى تبكي أعينهم ، يرضون بالقليل ، ويحمدون الله أن منحهم زاد
يومهم .
يتجمعون حول مصباح يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وبين الحين والحين يرفعون رؤسهم - وهم نادرا
ما يرفعونها - ليطالعوا في الأفق تلك الأنوار
المتلألئة للقصر الكبير ، المحاط بأسوار أسمنتية عالية ، وخلفها الأشجار الباسقة ،
ويحكون أن هناك حدائق ورياحين وجداول ماء رقراقة تسيل من نوافير ، ويتحاكون عن الأطعمة الوفيرة ، وأنواعها العجيبة الغريبة ، لدرجة أن
أحدهم من مزوقي الكلام ، قال : إن بها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ، ولا خطر علي قلب بشر .
لكن لا يجرؤ أحد على الدخول إلى هذا القصر ولا الاقتراب منه ، فهناك الحراس
الأشداء غلاظ القلوب ، ومن ينجو منهم فلن
ينجو من الكلاب المتوحشة المدربة على القتل لأي مقتحم لأسوار هذا القصر .
وهناك أبواب القصر الفولاذية ، ثم إن على كل النوافذ شبك من الأسلاك التي
تمنع الذباب أو حتى البعوض من التسلل إلى داخل القصر .
أحببت منازل حارتي ، أحببت أهلها ،
وثرثراتهم ، وشجارهم ، وشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم .
وها أنا منذ أيام أفتش في بيوتهم عن كسرة خبز فلا أجد ، سمعتهم يتهامسون عن
ضيق المعايش ، وارتفاع الأسعار ، وقلة الدخول ، سمعتهم يقولون أن السيد السمين، الذي يسكن في القصر المنيف ، والتي تقبع حارتنا منكفئة على نفسها ، في ظلِّ هذا القصر .
سمعتهم يقولون أن السيد السمين ، والذي يعمل في مصنعه كل أهل الحارة، قرر أن
يُخفض الرواتب للربع ، هذه الرواتب التي لم تكن تكفي أهل الحارة إلا للقليل من الخبز اليابس، والذي كنت أشاركهم فيه ، بل وفصل أعدادا كبيرة من أهل الحارة ، لزيادة
أرباحه التي ما عادت تكفيه للذهاب إلى بلاد الفرنجة ، ليقضي أوقات الصيف في البلاد الباردة .
وقال آخرون إنه يريد أن يهدم كل
بيوت الحارة ، لأنها نقطة سوداء وبقعة شائهة ، تسيئ إلى منظر قصره المنيف . وأن أصحابه
وزواره من الأغنياء ، يخافون من الضواري
التي تعيش في الحارة المجاورة لقصره .
أمضَّني ألم الجوع ، ويئست من العثور على أي طعام أو فتات في بيوت الحارة ،
ولم أتجه إلى البحث في أكوام القمامة ، فالفقراء ليس لديهم قمامة تجد فيها طعاما
كالأغنياء.
قررت في لحظة يأس ، أن أقتحم قصر
الرجل السمين ، لعلي أحظى ببقايا من أطعمته
، التي يلقي بها في القمامة ، وأوقف تلك
الذئاب التي تنهش معدتي .
ولأنني ذبابة فلقد علوت الأسوار بسهولة ، ولم يلحظني الحراس ، وحتي الكلاب
لم تشم رائحتي ، فليس للذباب رائحة ، فما بالكم بذبابة لم تأكل منذ خمسة أيام !.
ولم يبق إلا الدخول إلى القصر ، فكمنت فوق شجرة ، حتي لاحظت أن أحد النوافذ
لم يتم إغلاقها بعناية ، فنفذت منها إلى داخل القصر المنيف ، وهالتني الأنوار المبهرة ، لدرجة أنها للوهلة الأولى كادت
تصيبني بالعمي و الدوار ، ولكن بعد قليل تعودت عليها ، ودلفت مسرعا إلى حيث روائح
الطعام الشهية .
فاذا بغرفة واسعة ، ومائدة كبيرة
جدا قد احتلت معظم هذه الغرفة ، وقد أحيطت بمقاعد ليس عليها أحد ، وقد امتلأت بكل
أنواع الطعام ، ويجلس على رأسها الرجل السمين ، يتناول طعامه بهدوء ، فكمنت أسفل
المائدة من الجهة المقابلة لمجلس السيد السمين حتي لا يراني ، وتوقفت تماما عن
الحركة ، ثم لما اطمأننت أنه لم يرني ، تسللت بخفة لاتذوق الطعام البعيد عن السيد السمين .
وفي لحظة وأثناء محاولتي الوصول
للطعام ، رمقني السيد السمين ، وقام بحركة سريعة / بطيئة بحسب ضخامته وثقل جسمه ،
متوجها لي ، وبيده آلة لم أتبينها ، فتجمدت مكاني من الرعب لأول وهلة ، ثم أسرعت مبتعدا عنه حول المائدة ،
وبعد مطاردة استغللت فيها خفة حركة الذباب ، استطعت أن أهرب من غرفة الطعام ، وقد
نالني التعب من الخوف والارهاق والجوع ،
فدخلت في أول باب قابلني، وتبعني السيد السمين ، ولسوء حظي اكتشفت أنني دخلت
الحمام ، والحمام مكان مكشوف وأنواره مبهرة ، والاختباء فيه يكاد يكون مستحيلا .
وهجم علي السيد السمين وبيده آلته
، وعندما ظن أنه قد حاصرني، وسد علي
الطريق بجثته الضخمة ، استطعت أن أمر بسهوله من بين فخذيه السمينتين ، وأصبحت أمامي
فرصة للهرب ، لكنه ركلني في آخر لحظة ركلة
أطاحت بي أرضا ، وأصابني دوار ، وغامت الرؤية ، ووطأني السيد السمين بأقدامه الثقيلة
، مرات ومرات ، وآخر ما أتذكره ، وقبل أن أفارق الحياة أنه حملني بإصبعيه وألقى بي
من النافذة .
وفي صباح اليوم الثاني ، جلس السيد السمين يتناول إفطار الصباح على مائدته
الفخمة ، وبيده جريدة الصباح ، ليقرأ في الصفحة الأخيرة ، خبرا صغيرا منزويا
هامشيا ، العثور على جثة صبي قتيل تحت نافذة السيد السمين ، ويقول المحققون أنه اقتحم
القصر بهدف السرقة .