رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

مصرع ذبابة.. قصة قصيرة للكاتبة هبة آل سهيت

  • أحمد عبد الله
  • الثلاثاء 14 أبريل 2020, 5:51 مساءً
  • 1558
الكاتبة هبة آل سهيت

الكاتبة هبة آل سهيت

مصرع ذبابة

 

استيقظت صباحا والجوع ينهش أحشائي ، مسحت وجهي بأطرافي الدقيقة،  فتشت في جُحري الصغير عن أي بقايا طعام ، أو حتى  لقمة عفنة تسد رمقي ، فلم أجد ،  فمنذ خمسة  أيام ، لم يدخل جوفي طعاما ، ولقد  ذهب والداي في يوم أسود ليحضرا لي الطعام ، ولم يعودا ، يومها بكيت كثيرا ، وانتظرتهما حتى ملَّني الانتظار ، وبحثت عنهما في كل جُحر وكل ثقب أعرفه في الحاره  ، لكنني بعد أن يئست من عودتهما ، فأنا أقوم يوميا بزيارة كل منازل الحارة البائسة ، ذات الأبواب والنوافذ المفتوحة دائما ، أتطفل على موائدهم ، وأشاركهم الخبز اليابس، والطعام القفار.

 

 أحيانا لا يكترثون لتطفلي ، ويتركونني أتذوق خبزهم الفقير ، وأحيانا يلوحون في وجهي بأيديهم لأفارقهم ، فأخرج مسرعا ، لكنني أعود مرات ومرات ، حتي أنال لقمتي الصغيرة    .

 

 والناس في حارتي  ، أناس طيبون ، يأكلون قليلا  ،ويتكلمون كثيرا  ثم يتجمعون كل مساء ، في الطرقات الترابية ، على حواف برك ماء المجاري  التي تنتشر في  طرقات الحارة ،  كبقع في الجلد الأجرب ، ،تزكم أنوفهم  الروائح الكريهة ، لكنهم لا يدركون  أنها كريهة ،  يثرثرون ، ويضحكون حتى تبكي أعينهم   ، يرضون بالقليل ، ويحمدون الله أن منحهم زاد يومهم  .

 

  يتجمعون حول مصباح يلفظ أنفاسه الأخيرة  ، وبين الحين والحين يرفعون رؤسهم - وهم نادرا ما يرفعونها - ليطالعوا  في الأفق تلك الأنوار المتلألئة للقصر الكبير ، المحاط بأسوار أسمنتية عالية ، وخلفها الأشجار الباسقة ، ويحكون أن هناك حدائق ورياحين وجداول ماء رقراقة تسيل من نوافير ، ويتحاكون  عن الأطعمة  الوفيرة ، وأنواعها العجيبة الغريبة ، لدرجة أن أحدهم من مزوقي الكلام ، قال : إن بها ما لا عين رأت،  ولا أذن سمعت ، ولا خطر علي قلب بشر .

 

لكن لا يجرؤ أحد على الدخول إلى هذا القصر ولا الاقتراب منه ، فهناك الحراس الأشداء غلاظ  القلوب ، ومن ينجو منهم فلن ينجو من الكلاب المتوحشة المدربة على القتل لأي مقتحم لأسوار هذا القصر .

وهناك أبواب القصر الفولاذية ، ثم إن على كل النوافذ شبك من الأسلاك التي تمنع الذباب أو حتى البعوض من التسلل إلى داخل القصر .

 

أحببت منازل حارتي ، أحببت أهلها  ، وثرثراتهم ، وشجارهم ، وشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم .

 

وها أنا منذ أيام أفتش في بيوتهم عن كسرة خبز فلا أجد ، سمعتهم يتهامسون عن ضيق المعايش ، وارتفاع الأسعار ، وقلة الدخول ، سمعتهم يقولون أن السيد السمين،  الذي يسكن في القصر المنيف ، والتي تقبع  حارتنا منكفئة على نفسها ، في ظلِّ  هذا القصر .

 

سمعتهم يقولون أن السيد السمين ، والذي يعمل في مصنعه كل أهل الحارة، قرر أن يُخفض الرواتب للربع ، هذه الرواتب التي لم تكن تكفي أهل الحارة إلا  للقليل من الخبز اليابس، والذي كنت أشاركهم فيه  ، بل وفصل أعدادا كبيرة من أهل الحارة ، لزيادة أرباحه التي ما عادت تكفيه للذهاب إلى بلاد الفرنجة ،  ليقضي أوقات الصيف في البلاد الباردة .

 

 وقال آخرون إنه يريد أن يهدم كل بيوت الحارة ، لأنها نقطة سوداء وبقعة شائهة ، تسيئ إلى منظر قصره المنيف . وأن أصحابه وزواره من الأغنياء ، يخافون من الضواري  التي تعيش في الحارة المجاورة لقصره .

 

أمضَّني ألم الجوع ، ويئست من العثور على أي طعام أو فتات في بيوت الحارة ، ولم أتجه إلى البحث في أكوام القمامة ، فالفقراء ليس لديهم قمامة تجد فيها طعاما كالأغنياء.

 

قررت في لحظة يأس ،  أن أقتحم قصر الرجل السمين ،  لعلي أحظى ببقايا من أطعمته ، التي يلقي بها في القمامة  ، وأوقف تلك الذئاب التي تنهش معدتي .

ولأنني ذبابة فلقد علوت الأسوار بسهولة ، ولم يلحظني الحراس ، وحتي الكلاب لم تشم رائحتي ، فليس للذباب رائحة ، فما بالكم بذبابة لم تأكل منذ خمسة أيام !.

 

ولم يبق إلا الدخول إلى القصر ، فكمنت فوق شجرة ، حتي لاحظت أن أحد النوافذ لم يتم إغلاقها بعناية ، فنفذت منها إلى داخل القصر المنيف ، وهالتني  الأنوار المبهرة ، لدرجة أنها للوهلة الأولى كادت تصيبني بالعمي و الدوار ، ولكن بعد قليل تعودت عليها ، ودلفت مسرعا إلى حيث روائح الطعام الشهية  .

 

 فاذا بغرفة واسعة ، ومائدة كبيرة جدا قد احتلت معظم هذه الغرفة ، وقد أحيطت بمقاعد ليس عليها أحد ، وقد امتلأت بكل أنواع الطعام ، ويجلس على رأسها الرجل السمين ، يتناول طعامه بهدوء ، فكمنت أسفل المائدة من الجهة المقابلة لمجلس السيد السمين حتي لا يراني ، وتوقفت تماما عن الحركة ، ثم لما اطمأننت أنه لم يرني ، تسللت بخفة لاتذوق الطعام البعيد عن  السيد السمين .

 

 وفي لحظة وأثناء محاولتي الوصول للطعام ، رمقني السيد السمين ، وقام بحركة سريعة / بطيئة بحسب ضخامته وثقل جسمه ، متوجها لي ، وبيده آلة لم أتبينها ، فتجمدت مكاني من الرعب  لأول وهلة ، ثم أسرعت مبتعدا عنه حول المائدة ، وبعد مطاردة استغللت فيها خفة حركة الذباب ، استطعت أن أهرب من غرفة الطعام ، وقد نالني التعب من الخوف والارهاق  والجوع ، فدخلت في أول باب قابلني، وتبعني السيد السمين ، ولسوء حظي اكتشفت أنني دخلت الحمام ، والحمام مكان مكشوف وأنواره مبهرة ، والاختباء فيه يكاد يكون مستحيلا .

 

 وهجم علي السيد السمين وبيده آلته ، وعندما ظن أنه قد حاصرني،  وسد علي الطريق بجثته الضخمة ، استطعت أن أمر بسهوله من بين فخذيه السمينتين ، وأصبحت أمامي فرصة للهرب ،  لكنه ركلني في آخر لحظة ركلة أطاحت بي أرضا ، وأصابني دوار ، وغامت الرؤية ، ووطأني السيد السمين بأقدامه الثقيلة ، مرات ومرات ، وآخر ما أتذكره ، وقبل أن أفارق الحياة أنه حملني بإصبعيه وألقى بي من النافذة .

 

وفي صباح اليوم الثاني ، جلس السيد السمين يتناول إفطار الصباح على مائدته الفخمة ، وبيده جريدة الصباح ، ليقرأ في الصفحة الأخيرة ، خبرا صغيرا منزويا هامشيا ، العثور على جثة صبي قتيل تحت نافذة السيد السمين ، ويقول المحققون أنه اقتحم القصر بهدف السرقة .

 

تعليقات