«راندا».. قصة قصيرة لعزة عز الدين

  • جداريات 2
  • الأربعاء 01 أبريل 2020, 01:13 صباحا
  • 720

جلستُ في المقعدِ الأول للأتوبيس المتجه بنا إلى مدينة الغردقة،  الرحلة طويلة مرهقة ولكن جمال المدينة يستحق.

  قطع الصمت والهدوء صوت إحدى الراكبات تنهرُ فيه السائق على سرعته ولم يستجب فدخلا معاً في جدال،  لم ألق له بالاً رغم تطوره السريع لشجار.


  وإنما انشغلت بهذا الصوت الذي يشبه صوتاً أختزنه في وجداني،  أستحضره في لحظات حنيني للماضي الجميل، صوت صديقتي راندا التي لم ألقها منذ ثلاثين عاماً،  فقد فرقت بيننا السنوات والقارات والأميال ولم يعد بيننا طريق موصول سوى خيطاّ من الذكريات الغالية هي نتاج لأعوام زمالة دراسة جمعتنا في المرحلتين المتوسطة والثانوية.


 كنت وقتها أدرس في السعودية حيث كان يعمل والدي وكانت هي تقيم منذ ميلادها بصحبة أسرتها، توطدت الصلة بيننا وتطورت لصداقة عميقة وجمعتنا مشتركات كثيرة،

الغربة وفيروز ،  أسواق الخبر وعمارة برغش الشاهقة التي تجمع المغتربين، شاطئ نصف القمر بالدمام،  المدرسة والمعلمات والزميلات، الباص ورحلة الذهاب من وإلى المدرسة، حصص التعبير وحصص الرسم.


جمعتنا كثير من الأماني وقد رسمنا لأنفسنا طريقا وأهدافا، كنا ننظر لمستقبلنا بعينِ الواثقات المتأملات لكل فرح ونجاح، كنا نرسمه بحروف من نور، نتحاور و نحلم ونضحك ونتخيل.


 كانت راندا تراهن على اني سأصبح يوماً صحفية لامعة،. أو مذيعة متألقة (ولم تتحقق نبوءتها). 


  يعكر فقط صفو أيامنا معاً أنه حتما سنفترق،  كنا نشفق على أنفسِنا من هذه اللحظة  فاتفقنا أن لا نودع سوى على أمل اللقاء وأن يبقى الوصال بيننا ما حيينا.


لا تبعدنا مسافات ولا تفصلنا حواجز ولا تفرقنا مدن.


 وحانت اللحظة الحاسمة  ودعنا بعناقٍ حار وأعين تفيضُ دمعاّ وخفقات قلوب حائرة تتوق للقاءٍ بعد حين.


التحقت راندا بجامعة الأردن بعمان والتحقت أنا بجامعة عين شمس بالقاهرة، استمر التواصل بيننا بالخطابات سنتين فقط، كنت أترقب خلالهما ساعي البريد بشغف،  أتسلم خطابها وأكاد التهم السطور من فرط شوقي ولهفتي للاطمئنانِ عليها ومعرفة أخبارها ثم أكتب لها الرد.


  ومع كل قراءة وكتابة أبكي متأثرة وأزعم أنها كانت تبكي هي الأخرى،  ثم ولأسباب لا أعرفها  انقطعت خطاباتها تماما، وتقطع سبيل الوصال الوحيد بيننا واختفت راندا من حياتي وإن لم تختف من قلبي.


 مرت السنوات والمراحل ولم أنساها أبداّ،   هي في وجداني كما الواقع.

وهكذا ذكرني بها الشجار و الصوت.


مر هذا الشريط في خيالي طيلة ساعات الرحلة، وعند الوصول وقفت جوار هذا الجزء المخصص في الأتوبيس لحفظ الحقائب ومن حولي باقي الركاب.


  ثم في لحظةٍ مباغتة وقعت عيناي على وجهٍ خطف قلبي،  هذه ملامح أحفظها جيدا 

  إنها راندا صديقتي  نعم إنها هي صاحبة الصوت 


   عشت لحظات دهشة وفرحة وحنين لا تسَعها مدونة

  ثم اقتربت منها وأنا أترقب عناقاّ بطول السنين".

 

راندا إنت مش فاكراني؟!! "  تأملتني قليلا ثم ابتسمت وأجابت  نعم

  مدت يدها للسلام واكتفت.

 

وفي دهشةٍ بالغة أمسكَت بحقيبتها وابتعدت دون حتى وداع جديد.


يبدو أن قلبي ليس ككل القلوب،  أو أن الزمن والبُعد له حسابات أخرى،  أو أن الواقع عند الكثيرون أقوى بكثير من الماضي رغم حلاوته وأنه يجب ما قبله من أحداث.


راندا

   لقائي بك لحن مزق الوتر.

تعليقات