د. حسام عقل يكتب: مصر في مرمى التنين.. دروس الإعصار!

  • أحمد عبد الله
  • الأحد 15 مارس 2020, 3:29 مساءً
  • 2620
د. حسام عقل

د. حسام عقل

إنها دروس ما بعد العاصفة (على غرار ما كتبه الروائي الكبير الراحل) "نجيب محفوظ" بعنوان : "دروس أكتوبر" بعد ملحمة العبور  العسكري في أكتوبر 1973) ، أعني الدروس التي يمكن أن تترسخ  بعد أن تبددت السحب الداكنة  عن وطننا الحبيب مصر ، و توقف السيل _ غير المسبوق ! _ عن الهدير و الاجتياح ، و كفت الأشجار و أعمدة الإنارة عن التراقص بخفة يمينا ً و يساراً ، و قد تلاعبت بها الرياح الملتاثة المجنونة التي توقع نظام " جي . إف . إس " الأمريكي أو نظام توقع أحوال الجو العالمي أن تتراوح سرعتها بين أربعين  و خمسين ميلا ً في الساعة !

لحظات من الهلع و الإحباط ولزوم المنازل بانقياد تام واستسلام كامل لم تعرفه مصر من قبل.
فما كنا نراه بمخيلة " الفانتازيا " من تلاعب المياه الهادرة بالبشر و المركبات والأمكنة في السينما العالمية مثل " تيتانيك" و غيره من عائلة الأفلام المشابهة  ، رأيناه _ رأي العين _ على مبعدة أمتار من أسطح منازلنا و طرقنا و قرانا و نجوعنا ، ورأينا السيارات تسبح ، بخفة ، كالميداليات المعدنية الصغيرة  على أنهار جارية شكّلها مجرى المياه المجتاحة دون ترفق !!
والموقف الماثل برمته على هامش ما جرى في  العواصف و الزعابيب التي ارتقت _ للمرة الأولى في وطننا _ إلى مستوى " الإعصار " بالمعنى العلمي _ لا العاطفي _ للكلمة ، أقول إن هذا الموقف المهيب المسكون بالهلع ، يقتضينا أن نتأمل قليلا ً ما حدث على المستويات السياسية و الاقتصادية و الإنمائية والفكرية ، ليكون هذا الموقف الشامل الذي خلفه الإعصار ،  هو " المجسات " التي تقيس تربة مصر الآن ، و تختبر صلاحيتها و صمودها و بنيتها الجديدة  و مزاياها و قدرتها المتجددة على البعث والنهوض ، و نوع العلاقات الإنسانية الجديدة المتقاطعة  ، التي تشكلت بين أبنائها _ باختلاف أطيافهم _ في السنوات الأخيرة ، صداقة و عداء ، أو عناقا ً و خصومة . 


و سيقتصر الرصد هنا على ثلاثة مستويات جذرية -بصورة أساسية-،

أولها: "مستوى الجهوزية و المصارحة".
وثانيها: "مستوى الاستقطاب الفكري والسياسي و الإيديولجي الخطير الذي وصل  في مصر -بالتراكم- إلى أخطر سقوفه و أشكاله فيما أرى ، و أثر على قالب العمل الجماعي ووتيرته و نوع مردوده".
وثالثها: "مستوى البشائر و مناطق التفاؤل  المنورة لصورة المستقبل " ، و  التي يمكن للأزمة المزلزلة الكاشفة ، أن تجلوها و توضحها بقوة ، حتى و إن كانت " بشائر شاحبة " أو " خافتة الضوء " !  

أما على مستوى المصارحة، فلا جدال أن مصارحة مجلس الوزراء للرأي العام بنوع الخطر القادم كانت مسموعة و بقوة ، في ساعات ما قبل العاصفة و برغم التقدير المؤكد لهذا الموقف المسئول الاستباقي ، و قد صاحبه على المستويات الرسمية و الإعلامية تقديم حزمة من النصائح المفيدة في العموم ، أقول إن هذه المصارحة أثار عليها بعض الغبار طائفة من المواقف الإعلامية ، غير المسئولة من قبل بعض المنابر الإعلامية التي افتقرت إلى المهنية _  بصورة جالبة للأسى _ حين تصورت هذه المنابر أنها _ بالتعتيم _ تخدم الوطن ، و بحجب الحقائق أو التعمية عليها ، تزيح العراقيل أو تكسب نقطة تميز زائفة / رديئة  في رهانات التقرب من أي سلطة  ! 

وحتى يتضح ما نقول ، بالشواهد الحية و التوثيق و الأمثلة ، ننعش الذاكرة بأنه حين نشرت ال " واشنطن بوست "  تقاريرها  الأولية المبكرة الموثقة ، المقررة  بأن الإعصار " ميديكين " الذي يقترب من مصر " إعصار نادر " ، كما أكدت ذلك بوضوح وكالة " ناسا " حين أوضحت أن هذا الإعصار من نمط " الإعصارات المدارية النادرة " ، و زكت ذلك بالتأكيد  بأنه _ بالحتم _ سيضرب الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط مرتطما ً بمصر و فلسطين و الأردن ، و سيمتد على مسافة 300 ميل من أقصى البحر الأبيض المتوسط وسيصحبه عاصفة مدارية ، و أمطار غزيرة و رعدية ، قد تصل إلى حد الفيضانات في بعض المناطق الساحلية ، حين وضعتنا ال " واشنطن بوست " في مرمى الخطر القادم ، بالعلم لا الافتراض ، و بصور الأقمار الصناعية لبنية الإعصار و سلوكه الجغرافي المنتظر ، لا بالتخمين و الظن ، كان يتعين أن تكون كلمة " الإعلام " واضحة  و خالية من معنى المزايدة و موحدة على تأكيد الخطر ، لأن بمقدورنا أن نحجب عن الأعين صورة باب أو مبنى مثلا ً بتغطيته بملاءة أو قطعة قماش ، لكن ما السبيل لأن نحجب عن الأعين " إعصارا ً " يجتاح بعربدة و يدمر بجنون  و يهز البيوت و أعمدة الإنارة ؟! و ما نوع الرهان الأعمى الضحل الذي يقف خلف هذا الحجب و التكتم ؟! و ما فائدته ؟! و ما عمره الزمني الحقيقي للاستمرار ؟!

فقد نشرموقع " اليوم السابع " _ بالتزامن مع التحذيرات  واسعة النطاق _  بتاريخ 11 مارس 2020  عنوانا ً نصه : " نكشف حقيقة تعرض مصر لإعصار التنين بصور عبر أقمار صناعية من داخل الأرصاد " و مضى الموقع ليؤكد : " تداولت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الساعات القليلة الماضية تدوينات حول تعرض مصر خلال الساعات المقبلة لإعصار ، و ما أطلقوا عليه " منخفض التنين " و هو ما نفته هيئة الأرصاد الجوية !!! " و عاود الموقع التأكيد : " .. نفت إيمان شاكر مدير إدارة الاستشعار عن بعد ، بالهيئة العامة للأرصاد الجوية ، في تصريحات خاصة لليوم السابع تعرض البلاد لإعصار خلال الفترة المقبلة !!!

وبوضوح دون تجمل أو لف و دوران: ما قيمة هذا الحجب و التكتم ؟! و ما ثمنه المهني و الوطني ؟! و أي فائدة أو عائدة لمصر من هذه الممارسة الإعلامية الحاجبة للحقائق ، على غير ما فعلت السلطة نفسها أو أرادت ؟! 

لقد خلد الإعلامي الأمريكي الشهير " كرونكايت " في ضمائر الأمريكييين،  حين جهر بالحقائق لا الأوهام فصارح الأمريكيين  بأنهم لن ينتصروا في معركة " فيتنام " لافتقار هذه المعركة إلى أي عمق أخلاقي فلقبه الأمريكيون في الثمانينيات ب " الرجل الأكثر صدقا ً " ، و هو  ماصنعه _ بالمصداقية نفسها _ "سيمور هيرش" حين كشف فضائح سجن " أبو غريب " و حقيقة مذابح " مانلي " التي راح ضحيتها خمسمائة مدني فيتنامي  من الأبرياء ، فكانت المصارحة بابا ً للثقة و القوة و تصحيح المسار قبل وقوع الكارثة أو الجائحة الكبيرة !

أما على صعيد " الجهوزية " اللازمة لأمثال هذه النوازل أو حتى المحن الوطنية المقاربة أو المشابهة، فلابد أن نفتح قوسا ً كبيرا ً أو أقواسا ً لتحذير ضخم صادق ، نابع من عمق الجرح و رقعة الأزمة الكبيرة ، أعني التحذير من الضعف الواضح في " البنية التحتية " التي يمكن أن تتحمل ارتطاما ً خطيرا ً بأزمات و نوازل من هذا النمط المزلزل الآن أو مستقبلا ً  ، فثمة قرى قصمت السيول و المياه و الرياح الرعدية ظهرها تماما ً ، على نحو ما حدث مثلا ً في قرى مدينة " الصف " ، حيث ارتفعت المياه في الأدوار الأرضية للبيوت إلى مسافة مترين ! و بقي كثيرون محاصرين فوق أسطح منازلهم الغارقة في المياه لفترات طويلة في قرية " الديسمي " مثالا ً لا حصرا ً ! و في مناطق أخرى ،  غمرت المياه الأراضي الزراعية  تماما ًو أغرقت عددا ً من المحاصيل الضرورية ،  ربما كان أفدحها  أثرا ًما جرى لمحصول الفراولة  ، على نحو ما حدث _ كنموذج _ في قرية " سنور " بمحافظة " بني سويف " ! و تحت ضربات المطرقة المائية المخيفة ، تكسرت طرق كقطع البسكويت الذائب ، على نحو ما حدث من هبوط أرضي خطير في الطريق الدائري بالمعادي ، و طريق القاهرة / أسيوط الجديد ، و طريق " السويس " الذي شهد هبوطا ً في الأرض يمينا ً و يسارا ً. و هنا بقيت المفارقة المحزنة _ بحجم الأفق _ إذ كيف يصمد شارع " المعز " ، الذي بناه " جوهر الصقلي " ، قبل ألف عام أمام المياه الهادرة و الأمطار الرعدية ، التي انثنت _ بسلاسة  شديدة _ على جانبيه ليستعيد جمال بلاطه و ملاطه و تألقه ، فيما تنهار طرق أسفلتية ، تم شقها قبل سنوات  قريبة العهد ؟! 

أما على مستوى الاستقطاب الفكري والإيديولوجي الخطير في مصر يين الفرقاء الإيديولوجيين و السياسيين ، فقد كشفت الأزمة بوضوح عن ترسخ هذا الشق الاستقطابي واستمرار تعمقه ، و تحوله _ في بعض المساحات _ إلى "أخدود كبير" يفصل بين فريقين ، عاجزين عن التوحد على أية قضية ، أو الاتفاق على أية شراكة نافعة في عمل وطني جماعي كبير ، و حتى أزمات الموت المحقق لم تقرب المسافة ، أو تخفف من ضغينة القلوب ، أو توحد الفرقاء " التقليديين " على مجرد وسيلة مشتركة ل " دفع الموت " !!! 

فمن معسكر الفكر اللاديني كتب أحد الأدباء " بوست " على صفحته الشخصية على الفيسبوك قائلا ً : " .. بالعلم عرفنا طقس النهارده قبل وقوعه ، و ناس كتير تجنبت مخاطر كان ممكن تموت فيها ، و بالعلم أقولك : الجوامع خطر دلوقت .. الجوامع بؤر لنشر الفيروس .." !! فلم يشم كاتب البوست رائحة الموت ، و لم يأبه لعمق الكارثة الشاملة ، و لم ينظر مليا ً إلى وطن يئن  باتساع بلداته الدامعة إزاء إعصار ، يسحق بنيته التحتية بضراوة ، و يدمر مساكن لا يفرق في سكانها و قاطنيها ، بين ليبراليين و يساريين  وإسلاميين ، لم ينظر الأديب إلى هذا كله ، لكنه رأى فقط قباب المساجد و مآذنها ، عقبة وحيدة كأداء!!
 وفي الضفة الأخرى من المعسكر  كتب أحد الأساتذة الأكاديميين " بوست " يقول فيه : " .. الله يتجلى كيف يشاء ، هذه بعض قدرة الله .." // " .. إن ما يحدث فرصة عبقرية للتصالح مع الله ، و التصالح بين المصريين " // " .. هذا وقت الارتفاع عن كل أشكال التنافر و الاستقطاب .." ، و برغم ما نراه في البوست الثاني من نبرة المسعى الواضح  للتعايش و العمل المشترك و ترسيخ دلالة العقد الاجتماعي الجامع بين الفرقاء ، أقول برغم هذا كله ، فإن المسافة بين " البوستين " ( أو التعليقين المتباينين ) تبرز بوضوح مساحة الشق المستمر ، و دلالة الانقسام الشعبي  و النخبوي الفاجع !! 

وأخيرا ً يبقى المستوى الثالث من الرؤية، بمثابة بارقة أمل وحيدة ، و كوة ضوء منيرة في أفق مضبب _ أو معتم ! _ أعني بروز ظاهرة "فهود المروءة المصرية" فمازال في الرقعة الواسعة مساحة باقية من المساندة و النبل الأخلاقي و الإنساني ، لم يخل المشهد المصري ممن يتنادون لنصرة المأزوم ، و يتجاوزون مجرد التنادي إلى الفعل الميداني الإنقاذي / المؤثر.
فرأينا من استضافوا نزلاء القطار المتأزم في " بني سويف " في بيوتهم ، و رأينا من فتحوا منازلهم للغرباء ووفروا لهم الوجبات الساخنة في السادس من أكتوبر ، بعد أن انقطع بهم الطريق ، و أغلقت المطاعم .
و رأينا شبابا ً في " التجمع " يُسخّرون سياراتهم لانتشال السيارات العالقة ، و رأينا الشاب النبيل " أحمد شعبان " ( 22 عاما ً ) ينقذ واحدا ً و عشرين شابا ً من السيول الجارفة في منطقة " نويبع " _ بعد أن جرفت السيول ثلاثة مخيمات _ ثم يدفع حياته ثمنا ً لجهده الإنقاذي المنفرد ، حين ارتطمت رأسه بالحجارة ، و جرفه السيل ليلقى حتفه !

والمعنى هنا
 .. أن المحنة لم تبدد مساحة النبل الباقية، و لم تطمس عرق الخير السخي الكامن في العروق ، و أن الخارطة الكبيرة التي تتقاطع فيها الأزمات ، لا تخلو من بقية باقية من ذاكرة " التلاحم الاجتماعي " و التساند المشترك و لو في أضعف الأحوال!

تعليقات