سعيد صادق يكتب: حصن الوسطية.. الدكتور محمد عمارة

  • جداريات 2
  • السبت 29 فبراير 2020, 5:51 مساءً
  • 1133
المفكر الدكتور محمد عمارة

المفكر الدكتور محمد عمارة

يعد رحيل المفكر الدكتور محمد عمارة خسارة فادحة للفكر والإسلامي، بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفكري الوسطي الأزهري المعتدل المستنير، رغم محاولات التشويه والتطاول التي طالته، لكنه لم يتأثر ولم يتزحرح وظل عطاؤه نهرا جاريا حتى وفاته يرحمه الله.

ومما يمكن أن نذكر به هنا حول جهود الدكتور عمارة أن نقول إنه كان حصنا مكينا من حصون الإسلام، فلم يؤت الإسلام أبدا من قِبَله بعد استقراره الفكري الإسلامي، وكانت جهوده حائط صد ضد الأفكار المتطرفة، فمن بين ما يقرب من 200 مؤَلف في الفكر الإسلامي نأخذ عنوانين فقط هما: التفسير الماركسي للإسلام، حيث تصدى فيه لأفكار نصر حامد أبو زيد حول تأويل النص القرآني، حيث اعتبر أبو زيد النص القرآني نصا بشريا ليس مقدسا بل هو ملفق مثله مثل شعر الصعاليك، وأن الفارق بين النبي والكاهن هو قوة المخيلة، والعقيدة مؤسسة على الأساطير التي تدور في وعي الناس، وأن الشريعة صاغت نفسها مع حركة الواقع والمطلوب ليس فقط تحويل إلى إنسانيات بل إلغاء الوحي وعقائد التوحيد والحي والجزاء. وأمام كل هذه الأفكار الجائرة على القرآن والسنة  لم يرفع محمد عمارة كغيره راية التكفير في وجهه، بل يعلن ويؤكد "أن أهم من تكفير الرجل يقصد أبو زيد- محاورته"، وهو ما قد كان وأنتج  "عمارة" كتابه "التفسير الماركسي للإسلام" يحارور الرجل فيه بهدوء. 

ومن أكثر الكتب التي تقطع بما لا يدع مجالا للشك نزاهة الدكتور عمارة كتابه عن عميد الأدب العربي "طه حسين.. من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام" وهو بحث يتسم بالحيادية والإنصاف للرجل ذي الحياة الأكثر جدلا في القرن العشرين، لذلك كان غمار الخوض في البحث عنه شائكا وصعبا وأخذ الدكتور "عمارة" على عاتقه هذه الصعوبة وأثبت انه لا ينبغي لأحد أو تيار معين التعصب لطه حسين وأفكاره، وجعله حكرا له خاصة ممن يعتبرون أنفسهم تلاميذ العميد كما أنه لا ينبغي لأحد أن يتعصب على طه حسين ويعتبره مرق من الدين، مستعرضا معارك العميد الأدبية والساسية طيلة حياته وخصوصا الجدل المثار حول كتابه في الشعر الجاهلي، واستعرض "عمارة" محاضر التحقيق مع العميد في هذه القضية، مؤكدا أن طه حسين بشر له ما له وعليه ما عليه، ويبقى له ما قدمه من كتابات  إسلامية في ميزانه، ونُشر بحث عمارة هذا حول العميد  كهدية مجانية مع أحد أعداد مجلة الأزهر ذات الانتشار الواسع.

إجمالا نقول إن كان خير ما ينفع الإنسان بعد رحيلة ولد صالح يدعو له  أو علم ينتفع به أو صدقة جارية، فنحسب أن الدكتور محمد عمارة جمع بين الأمور الثلاثة، فعلمه الغزير  الوسطي كان وسيظل معينًا جاريا ينتفع به لأجيال وأجيال تدعو له تدعو له.

والمفكر الدكتور محمد عمارة محافظة كفر الشيخ  وحفظ القرآن الكريم في سن صغيرة في كُتَّاب القرية. بدأت تتفتح وتنمو اهتماماته الوطنية والعربية وهو صغير،  وتخرج في كلية دار العلوم سنة 1965 . ثم حصل على الماجستير في العلوم الإسلامية تخصص  فلسف إسلامية من نفس الكلية عام 1970، حصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية عام1975  من نفس الكلية، ومن المناصب التي شغلها عضوية هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ورئاسة تحرير ملجة الأرهر. وكان نجلة الدكتور خالد أعلن اليوم رحيله قائلا عبر موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك: في مساء يوم الجمعة الموافق ٤ رجب سنة ١٤٤١ من الهجرة النبوية الشريفة توفي أبي المفكر الإسلامي و عضو هيئة كبار العلماء د. محمد عماره.. توفي أبي رحمه الله بعد فترة مرض قصيرة لم تتعدى الثلاثة أسابيع»، وأضاف: « توفي أبي رحمه الله في هدوء و بدون أي ألم أو معاناة يحيط به أسرته الصغيرة و يدعو لأمي  ولكل أولاده وأحفاده وأحبابه، وقال لكل واحد منهم: أحبك.. وأنا راض عنك.. توفي أبي رحمه الله و طوال مرضه يردد: الحمد لله. الحمد لله. الحمد لله وحين توفي كانت على وجهه ابتسامة الرضا.. توفي أبي رحمه الله و هو يوصي بإكمال مشاريعه الفكرية و كتبه و أبحاثه.. توفي أبي رحمه الله و هو راض عن الجميع و سامح الجميع ، حتى من ظلمه أو ضايقه يوما ما . و لا يحمل في قلبه الأبيض الطيب اي حقد أو ضغينة لأحد .. توفي أبي رحمه الله و هو يدعو لنا و لكل البشر بالخير والهداية.. توفي أبي رحمه الله و على وجهه نور جميل»، وكان الآلاف من محافظة كفر الشيخ خرجوا  في جنازة مهيبة لتشييع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير اليوم، فرحم الله محمد عمارة وجزاه عن الإسلام والأمة الإسلامية خير الجزاء.

تعليقات