"ها.. هي.. ها.. هام".. قصة قصيرة لشعبان القاص

  • جداريات Jedariiat
  • الأحد 23 فبراير 2020, 4:55 مساءً
  • 1619
الكاتب شعبان القاص

الكاتب شعبان القاص

"ها.. هي.. ها.. هام" لم يفارق هذا الصوت سمعي إلا قليلا، في كل مرة أسمعه، أجري نحو المكان الذي ينطلق منه، ورغم أني لا أجد شيئاً إلا أنني لا أكف عن الجري في كل مرة، وفي كل مرة تتجدد خيبة أملي، أعود فأحمد الله أن أحداً لم يترصدني أو يطلع على سريرتي وأنا أجري نحو مصدر الصوت.

حين أتسكع في الشوارع التي كنا ننشد فيها ألحاننا ونهتف بأحلامنا، وحين ألتقي بعض الوجوه التي ألفتها لليالٍ وأيام، يتجدد أملي ولا أشك لحظة في أن تتجمع هذه الوجوه وتظهر فجأة كما ظهرت من قبل.

أمي راحت تنعتني بالشوارعي، طوال عمري أحب الناس وأحب "اللمة"، أحببت صلاة الجمعة، وأحببتها أكثر حين كنا نصليها في الشوارع والميادين الكبرى في وسط مدينتنا، الآن لم نعد نصلي في الشوارع.

تنامى الصوت إلى مسامعي ذات يوم وأنا أصلي في المسجد: ها.. هي.. ها.. هام، طرت من الفرح، ما إن فرغت من الصلاة حتى قمت أتخطى رؤوس المصلين لأخرج، تأكدت هذه المرة أن رجائي لن يخيب، كان الصوت مشوشاً بعض الشيء، كتل من البشر في مجموعات مختلفة، كما لو كانوا جزراً منعزلة،  يتحلقون حول شيء ما، ورجل في الوسط يهتف، اقتربت منهم أسمع، فإذا هم باعة جائلون، كل منهم يهتف ببضاعته، مضيت أجر أذيال الخيبة.

راح الصوت يخفت، لزمت البيت، لم تعد أمي تنعتني بالشوارعي، الشوارع هي الأخرى راحت تنكرتي، المساجد على اتساعها تكاد تطبق على صدري.

لا أدري لماذا هيجتني الذكريات هذه الليلة، فنزلت إلى الشارع أتمشى، الصوت يتنامى إلى مسامعي من جديد، سلكت شارعاً فرعياً يفضي إلى الميدان، راح الصوت يشتد ويتعاظم: "ها.. هي.. ها.. هام".

دقات قلبي تتسارع، الصوت يتضح أكثر: "شا..يوري... اسقا...ظام".

الدموع تتراقص في عينيّ، اصطدمت بها وأنا أسرع الخطى نحو الميدان، تماما كما اصطدمت بها أول مرة، حين كانت ذرات الهواء تحترق بين رموش عينيّ، وأكاد أختنق من الدخان، يومها كانت تحمل زجاجةً ترش منها على وجوهنا سائلا يلطف من حدة الاحتراق، فركت عيوني ساعتها لأفتحها على هالة وجهها الملائكي الثائر النبيل، لم أنس وجهها أبدًا.

لولا الحياء  لأخذتها بين أحضاني وبكيت، هي أيضاً تذكرتني، سألتني في لهفة:

من أين يأتي الصوت؟

أجبتها وأنا أشير نحو اليمين: من هناك.

قالت وهي تشير عكس اتجاهي:

- لكني سمعته من هناك.

- يمين أو يسار، حتما سيمرون من هنا.

-  بادلتني ابتسامة خجلى، ثم قالت: سأذهب إلى الصيدلية و...

قاطعتها: تظنين أننا سنحتاجه...

- ربما...

قالتها وهي تسرع، بينما وقفت أنتظر.

تعليقات