مي زيادة.. ريحانة الأدب العربي

  • معتز محسن
  • الثلاثاء 11 فبراير 2020, 1:05 مساءً
  • 2840
الأديبة مي زيادة

الأديبة مي زيادة

تمر اليوم الذكرى الرابعة والثلاثون بعد المائة لميلاد رائدة من رواد التنوير للمجتمع بوجه عام ،وللمرأة بوجه خاص مستلهمةً من أسطورة عشتار المنتمية إليها عبر الحضارة الفينيقية قوام منطقة الهلال الخصيب ،متصلةً بالجذور الفلسطينية من خلال مولدها يوم 11 فبراير من العام 1886 بمنطقة الناصرة ،حيث مكمن دعوة المسيح عليه السلام كمصدر إلهام لها بدعوتها الأدبية عبر كلمات الحب والفضيلة والأخلاق الرفيعة عبر وسيط الأدب بمختلف أشكاله الفنية.

ولدت باسم ماري إلياس زيادة ،لأب لبناني وأم فلسطينية أرثوذكسية متشحة بعبق الفينيقية الزاهرة من خلال الترحال عبر البحار من بلد لآخر حسب الطبيعة الشامية المعانقة للبحر  ،تلقت تعليمها الإبتدائي بالناصرة والثانوي بعنيطورة بلبنان ،مكتسبة نضجًا وخضرمةً ثقافية من باب العولمة الحقيقية بمنطقة الشام ،حيث علمت العالم التواصل مع الحضارات الأخرى ،متقنةً الإنجليزية ،الفرنسية ،الإيطالية ،الألمانية ،الإسبانية ،اللاتينية ،السريانية ،واليونانية.

إنتقلت إلى مصر مع أسرتها في العام 1907 ودرست بكلية الآداب اللغتين الإنجليزية والفرنسية وأتقنت بعدهما الألمانية والإيطالية ثم الإسبانية ،وتعمقت عبر صالونها الشهير في اللغة العربية من خلال الكاتبين بها كخليل مطران ،أحمد شوقي ،حافظ إبراهيم وغيرهم ،فقد قاموا بتوطيد علاقتها باللغة العربية وقرأت القرآن الكريم وإستلهمت من معين الفرقان ما يخدم بيانها الأدبي ما بين المسرح والشعر والرواية والمقال إلى جانب دراستها العميقة للتاريخ والآداب الإسلامية.

قدمت "زيادة" العديد من الأبحاث والمقالات في المجلات والصحف المصرية ك"الهلال ،المقطم ،المحروسة ،الزهور ،الأهرام ،والمقتطف" وقامت بإصدار 14 مُؤلف منها : ديوان شعر بالفرنسية سنة 1911"أزاهير أحلام" ،"باحثة البادية" عن ملك حفني ناصف سنة 1920 ،"كلمات وإشارات" سنة 1922 ،"المساواة" سنة 1923 ،"ظلمات وأشعة" 1923 ،"بين الجزر والمد" 1924 ،"الصحائف" 1924 ،"سوانح فتاة" ،"كن سعيدًا" ،"الحب في العذاب" ،"ابتسامات ودموع" ،"نعم ديوان الحب" ،"عائشة التيمورية" و"وردة اليازجي".

قامت بتأسيس صالونها الأدبي الشهير الذي كان بمثابة الكوكب الدُري الملتف حوله شموس وأقمار الأدب والفكر ما بين شوقي ،حافظ ،مطران ،العقاد ،طه حسين ،مصطفى صادق الرافعي والعديد من الوجوه الأدبية التي غزلت التنوير في مصر ما بين أبنائها وأبناء المهجر الذي عانقوا مصر وعانقتهم هي بتراثها العريق.

أصبحت "زيادة" أيقونة إستثنائية جمعت الجمال بين دفتي الوجه الحسن وبهاء العقل لتكون مصدر إلهام للتغني بها شعرًا ونثرًا حتى بعد وفاتها في 17 أكتوبر من العام 1941 بمنزلها كل ثلاثاءوذلك وقت ذبولها الشديد عند تلقي صدمات رياح الموت في أبيها سنة 1929 ،وحبيبها الذي ربطها الحب به عبر أواصر الروح وعبير الكلمات ما بين مصر وأمريكا من خلال الرسائل المتبادلة وهو جبران خليل جبران الذي توفي في العام 1931 ،وأمها التي ماتت في العام 1932.

شعرت ريحانة الفكر والأدب بخفوت رحيقها الفواح من كثرة الأحزان لتكون عرضة للوحدة والإفتراس من بعض أقاربها في لبنان ،لتوضع في مستشفى العصفورية للأمراض العقلية وتظل حبيسة الجدران لمدة تسعة أشهر ،ويُحجر عليها حِجرًا قاسيًا لتجد من يصرخ من أجلها عبر الصحف اللبنانية ،وينتشلها أمين الريحاني من بين براثن الغدر والهجران ثم تعود إلى مصر التي شهدت ميلادها الأدبي والثقافي.

إستعانت بعد ذلك ببوصلة حضارتها القديمة بالسفر والترحال ما بين لندن وباريس وروما حتى تجد ما ينسيها ما عانت منه عبر الكتابة وحضور المحاضرات والمناظرات العلمية في عقد الثلاثينيات ولكنها استسلمت للذبول كي تبقى الريحانة ذابلةً تنتظر اللقاء الحتمي ألا وهو الموت.

توفيت يوم 17 أكتوبر من العام 1941 في مستشفى بالمعادي عن عمر يناهز 55 عامًا ولم يسير في جنازتها سوى ثلاثة أشخاص جعلوا للوفاء عملة نادرة ،مخلصين لمن نهلوا من رحيقها الفواح وهم :"أحمد لطفي السيد ،خليل مطران ،وأنطوان جميل".

بكاها الجميع في الصحف والمجلات ورثاها كبار الشعراء وأشهر من خلدتها كلماته ،عباس محمود العقاد الذي بكاها قائلاً:

أَيْنَ فِي المَحْفِلِ  مَيٌّ يَا صِحَابْ ؟
عَوَّدَتْنَا هَا هـُنَا فـَصْـلَ الخِطابْ
عَرْشُـهَا المِنْبَرُ مَرْفـُوعُ الجَنَابْ
مُسْـتَجِيبٌ حِيْنَ يُدْعَى مُسْتَجَابْ
أَيْنَ فِي المَحْفِلِ مَيٌّ يَا صِحَابْ ؟

وقالت عنها رائدة النسوية في مصر "هدى شعراوي" : "كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة ".

وقال فيها شيخ الفلاسفة مصطفى عبد الرازق تلك الكلمات الممزوجة بالدموع والتقدير :"أديبة جيل ، كتبت في الجرائد والمجلات ، وألفت الكتب والرسائل ، و ألقت الخطب و المحاضرات ، وجاش صدرها بالشعر أحيانًا ، وكانت نصيرة ممتازة للأدب تعقد للأدباء في دارها مجلسًا أسبوعيًا ، لا لغو فيه ولا تأثيم ولكن حديث مفيد وسمر حلو وحوار تتبادل فيه الآراء في غير جدل ولا مراء ".

كل هؤلاء بكوا مي التي رحلت نتيجة الغدر والهجران وكأنها ترثي نفسها قبل وفاتها قائلةً: "أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي، ودراساتي وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة "الأيدياليزم" أي المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس".



تعليقات