د. عباس شومان: اللغة العربية أشرف اللغات على الإطلاق
- الخميس 26 ديسمبر 2024
الشعر العربي
"ستظل الحضارة الإسلامية ، عنوانا
مضيئا لكل الحضارات ، فلم تعرف البشرية حضارة أشاعت العلم والتسامح مثلما فعلت الحضارة
الإسلامية ، ولولا التسامح كان روح الحضارة الإسلامية كان للغرب ولليهود وضعا مختلف
في كل فنون الحياة ، وأسالوا الغرب عن تماثيل العرب والمسلمين التي يزينه بها ميادين
جامعاتهم ، وعن طب ابن سينا وبصريات ابن الهيثم وفلاسفة الفارابي وحساب الخوارزمي وطب
الرازي، فلولا التسامح في الأندلس ما كان لليهود آثر في ميادين الحياة ولكن اليهود
أنفسهم يطلقون عليه عصر اليهود الذهبي ، لم صنعوه في تاريخهم السياسي والثقافي والاجتماعي
والاقتصادي في الأندلس وكم تأثروا بالثقافة الإسلامية والعربية ، ويكفي ما قاله المفكر
اليهودي فرانز روزنتال "يعد ترعرع الحضارة الإسلامية من أكثر الموضوعات استحقاقًا
للتأمل والدراسة في التاريخ؛ ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل هذه الحضارة أمر
يستحق التأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء الحضارة، ويمكن تسميتها
بـ" الحضارة المعجزة" كونها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع
جدا، ووقت قصير جدا"
عندما نذكر الشعر فلابد أن نذكر العرب ،
فهم جهابذة وأساتذة الأوزان الشعرية ، ومن منطلق تطور الأدب اليهودي في ظل الحضارة
الإسلامية العربية فكان لأبد أن يتأثر الشعر العبري بالشعر العربي ، وأعترف النقاد
والمتخصصين اليهود بهذا صراحة في كتاباتهم حيث جاء في كتاب " الأدب الصهيوني الحديث
بين الارث والواقع" لمؤلفه جودت السعد، ما قاله المترجم والناقد اليهودي الشهير
في كتابه "تحكموني" : إن الشعر البديع الحافل باللآلئ قد كان بادىء الأمر
ملكا مقصورا على بني يعرب وحدهم وقد وزنوه بموازين صادقة , وهم يفوقون في شعرهم شعراء
العالم قاطبة،ومع أن لكل أمة شعراءها فإن جميع شعرهم لا قيمة له ولا وزن مقابل شعر
العرب ،فالعرب وحدهم هم المستأثرون بالشعر العذب في لفظه الجميل في فحواه ومعناه .
ثم يتحدث الناقد الحريزي عن الشعر العبري في الأندلس وعن تأثير الشعر العربي في الشعر
العبري فيقول : أن شعبنا بعد جلائهم عن أرض كنعان قد قطن الكثيرون منهم مع بني يعرب
في أوطانهم , وألقوا التحدث بلغتهم والتفكير بتفكيرهم . وبامتزاجهم بهم تعلموا منهم
صناعة الشعر . وحين كان آباؤنا يقطنون في مدينة القدس ما كانوا يعرفون الشعر الموزون
في اللغة العبرية . أما أسفار أيوب والأمثال والمزامير فجملها قصيرة , وأبياتها سهلة
بسيطة وما أشبهها بالسجع وهي بعيدة عن أن تكون نظماً جميلاً موزوناً مقفى « . اذا كان
هذا الاعتراف قد ورد لسان صهيوني يعيش في الأرض المحتلة , مؤكداً دور العرب في بلورة
فكر اليهود الأدبي فهل بقي تفسير للسلوكية الصهيونية الممارسة ضد العرب غير العنصرية
.
وجاء في بحث بعنوان " المكونات العربية في الشعر العبري"
لمؤلفه أمينة بوكيل ، أن الكثير من مواضيع الشعر العربي انتقلت الى الشعر العبري ،
ووظفت لغايات جمالية متعددة ، موضحة أن أكثر المكونات الشعرية العربية التي تأثر بها
شعراء اليهود كان المكون الإيقاعي وهو أقوي الوسائل تأثيرا في المتلقي حيث يظهر في
شكله الخارجي الذي يحققه الوزن والقافية ، وفي الشكل الداخلي أيضا من خلال انسجام وتآلف
الكلمات الحروف ، وقد أدرك الشعراء اليهود أهمية هذا العنصر في الشعر العربي الذي يعد
بمثابة العمود الفقري للشعر فإذا استوى يستوى معه الشعر، وضربت مثل بالشاعر اليهود موسى بن عزرا " أشهر شعراء اليهود في الاندلس
" الذي أهتم بهذا المكون في أعماله الشعرية
وأشارت " بوكيل " في بحثها أن أهم موضوع
برز فيه موسى بن عزرا هو الحب ، حيث ألهمه
كل من الشعر العربي وتجربته الشخصية في ذلك ، كما ساعدته البيئة الاندلسية في أن يستقى
منها أجمل الصور ، وعبر عن هذا الموضوع في قصائد مطولة ،مشيرة إلى أن شعر " بن
عزرا" تميز بخفة وتنوع الأوزان ، المقتبس من الشعر العربي القديم وأهم العناصر
العربية التي انتقلت إلى شعره ، موضحة أن
" بن عزرا" وظف بكثرة صورة " الحمامة "النائحة " في شعره
لما توحى به من أجواء حزينة ، وهى صور نجدها أيضا في الشعر العربي في قوله
حمامة في الحديقة عشها ..بين الأريح فلما
هذا البكاء؟
ابك شريدا وابك سليبا ..سلبته المصائب لقاء
الأحبه
هاتي جناحيك كي أطير وأحط..بأرضهم متمرغا
في أرضهم الحبيبه
وتضيف " بوكيل أنه من المعروف أن مخاطبة
الحمام في مسألة الحب أمر شائع ومعروف في الشعر العربي ، فالحمامة بإمكانها أن تلعب
دور الرسول بين الأحبة الذين تفصلهم المسافات البعيدة ويوحي سجعها بأنه بكاء حزين عن
حبيب قد ضاع.
كما أن " بن عزرا " نفسه اعترف
بتأثير الشعر العربي على الشعر العبري
في كتابه "المحاضرة والمذاكرة" قائلا
: إن الشعر عند العرب أمر طبيعي بينما هو عند سائر الشعوب أمر اصطناعي ولما كان الأمر
كذلك ولما كان العرب قد وضعوا لأنفسهم قوانين وقواعد خاصة من أجل تزيين شعرهم فالقصائد
التي تحققت فيها هذه القوانين والقواعد تعد في نظرهم قصائد ممتازة . أما القصائد التي
ينقصها ذلك فهي قصائد ممجوجة لا طعم لها وعلى ذلك فما أحرى الشعراء العبريين أن ينسجوا
على طريقتهم جهد المستطاع .
وكان من أوائل الشعراء اليهود الذين استخدموا
نظم الشعر على نفس أوزان الشعر العربي كان " دوناش بن لبراط" ويعتبر أول
يهودي يدخل باب نظم الشعر المتحرر من الناحية الدينية التي نظموا شعرهم في إطارها ،
جاء ذلك في كتاب " الاحتيال عند الحريزي " لمؤلفه الباحث هيثم محمود إبراهيم،
والذي أكد أن اليهود لم يتطرقوا إلى الكتابات الأدبية والشعرية إلا بعد احتكاككم بالعرب
والمسلمين ومن ثم إعجابهم بالمؤلفات العربية الشعرية والنثرية ، فتولدت لديهم الغيرة
على لغتهم العبرية ، وبدأوا في تقليد الشعر العربي الموزون والمقفي ونظموا شعرا عبريا
على نفس أسس القصيدة العربية ، ، ثم اتجهوا إلى النثر وتنوعت كتاباتهم بين نثر فلسفي
وآخر ديني ، إلى أن تمكنوا من الخوض في باب النثر الأدبي
وعن نظم الشعر العبري التي تأثرت بنظم الشعر
العربي يقول الدكتور محمد فتحي البغدادي في بحث له تحت عنوان " المؤثرات العربية
في شعر يهود الأندلس " إنه ولم يقتصر
أمر إتقان اليهود للسان العربي على التأليف والترجمة ، وإنما تعدى ذلك إلى نظم الأشعار
، فهذه أبيات أوردها ابن سعيد بلسان إسماعيل بن نغريلة ( صمويل الناجيد ) حيث يقول فيها:
يا غائباً عن ناظري لـم يغب عن خاطري رفقاً على الصب
فماله في البـعد من سلـوة وماله سول سـوى القــرب
صورت في قلبي فلم تبتعـد عن ناظر الفــكرة بالـحب
ما أوحشت طلعة من لم يزل ينقل من طرف إلى قلــب
وأوضح "البغدادي" في بحثه أن
شعراء اليهود في الأندلس قد استعانوا في أحيان كثيرة ببعض المفردات العربية ، فأخذوها
بنفس دلالتها فكانت الألفاظ العربية في شعر يهود الأندلس ، مرجعا ذلك إلى أن اللغة
العربية لم تنقطع يوماً عن الاستخدام ، سواء كلغة حديث أو كلغة كتابة وتأليف ، وأن
العرب قد حافظوا عليها ، وطوروها باستمرار لتواكب المستجدات الحضارية والتاريخية من
حولهم. وقد زادهم تمسكا بها ، وحرصاً عليها أنها لغة القرآن الكريم ، والسنة النبوية
العطرة ، فأدركوا أن بقاءهم مشروط ببقائها، وتقدمهم مرهون بمدى قدرتها على التواصل
والاستمرار فضلا عن أن بعض الألفاظ العربية استحسنها شعراء اليهود ، وهو ما دعاهم إلى
أن ينقلوها كما هي وهذا سر وقوة اللغة العربية .