هل رأيت عيون عنكبوت السلطعون الأخضر من قبل؟!
- الخميس 21 نوفمبر 2024
المدير المرعب يصيب موظفية بالأزمات القلبية
صدر العدد رقم 413 من جريدة التعاون
بتاريخ 17 يناير عام 1971 وفي طياته مقالةٌ للأديب الراحل يحيى حقي كتبها بقلمه
الرشيق ولغته التي تجمع بين الجمال والرقة والفصاحة مع سعة الخيال والقدرة على
التحليل ونظرة الصقر البانورامية التي يتسم بها حقي والخبرة الواسعة بأمور الحياة.
وكانت هذه المقالة بعنوان " الأسد والحمل " وقد وضعها في كتابه " تراب الميري " وفيها يتجلى علينا يحيى حقي الكاتب وكلمة الكاتب هنا لا نجد وصفاً أدق منها ففي المقالة تبرز كل سمات الكاتب وأدواته وهو يبدأها بموقفٍ حدث له مع صديق ويبدو لنا أنه موقف غير محبب عند يحيى حقي؛ إذ نراه يكتب إلى صديقٍ له مهنئاً بإسناد أحد المناصب الحكومية الرفيعة إليه بحيث أصبح هذا الرجل يعمل تحت إمرته مئات الموظفين فقال له حقي في رسالته: أتمنى أن يكون نفاذك إلى العمل عن طريق الإنسان العامل، وقد أحس حقي بأن صديقه قد تسرب إليه الضيق كأنما صبَّ فوق رأسه لغزاً أو معضلة، وربما استسخفه لأنه رآه يتشدق بكلام يخرج على الفطرة ولا يهبط إلى الأرض بل يحوم في سماوات الخيال.
ونعرف أن الراحل يحيى حقي رغم أصوله التركية إلا أنه ابن بلد صميم فقد نشأ وتربى في حي السيدة زينب لذلك نراه يستخدم هذه المفردة الشعبية إذ يقول: " أو وصفني بأنني رجل عواطفجي " وهي مفردة تنسجم فيها اللهجة العامية لأبناء البلد مع التأثيرات التركية فقد حكم الأتراك مصر منذ عام 1517م حتى عام 1914 وبالطبع أثروا على عادات المصريين ولهجاتهم، على أية حال يبدو هذا العواطفجي حجر عثرة في طريق من يسميهم الناس بـ (العمليين).
ويسرح يحيى حقي مع نفسه على الورق فيتصور هذا المسئول وقد وضع أحد موظفيه فوق مكتبه وهو جالس ملفاً متخماً بالأوراق والموظف واقفٌ كالصنم ينتظر، وبعد دقائق تعمد المسئول فيها أن يهمل الموظف والملف الذي أحضره نجد المدير يرخي بصره إلى الورق وهو صامت يقرأ بلا تعليق، ثم يكتب المسئول تأشيرته وهو ساكت ثم يطوي الملف ويمده إلى يد الموظف وهو مطرق لا ينظر إلى وجهه ولا يستعنى حتى أن يبصق عليه؛ فالموظغ بالنسبة له ذبابة، وربما ترك لهذه الذابة آسف أقصد الموظف كدلالة على الهيبة والاستعلاء مهمة التكفل نيابةً عنه بعبء طي الملف وأخذه بعد تأشيره البيه المسئول.
في هذا الموقف لم يرَ السيد المسئول من مرؤوسه إلا مسافة ما بين القدم واليدين وكأنه شبحٌ مقطوع الرأس.
وكان أديبنا يتمنى على المسئول أن يرفع وجهه إلى الموظف فيعرف دون حاجة إلى الكلام أي إنسان هذا الواقف أمامه وسيشعر بمشكلاته متاعبه من هيئة ثيابه من ذقنه النابته من وجهه المنطفئ من لون بشرته وعينيه اللتين تبوحان بألاف الكلمات.
ولكن ماذا بعد أن يشعر البيه المدير بمتاعب السيد الموظف؟ بالطبع لا شيء هكذا يسأل يحيى حقي ويجيب على نفسه إذ لن يتأتى للمدير أن يقضي على مشاكل موظفه أو يعالج عقده النفسية لكن مجرد التقاء نظرة قناص من أعلى مع نظرةٍ عائمة من أسفل سيتبدل الجو من برودة الجفاف والتقاطع إلى دفء النضارة والتواصل إنه بلا شك جو أفضل لإنجاز العمل وتقدمه.
ويخبرنا حقي بخبرته التي زادتها السنوات عمقاً وقوةً واتساعاً أن مشكلة دواوين الحكومة هي افتقادها لمدير وسط بين نقيضين؛ فالمديرين بالقطاعات الحكومية لا يعرفون إلا المغالاة إلى الحد الأقصى في اتجاهين كلٌ منهما عكس الآخر، الاتجاه أو النمط الأول هو نمط استقر المعتقد الرسمي لدى جموع الموظفين بأن العمل لن يصلح ولن ينتظم إلا به، بالطبع عرفتموه، إنه المدير الحمش المشهور بشخطه الذي يوقع الدهان على الحيطان ويحول السبع إلى دجاجة والغضنفر إلى قطة، إنه المدير المرعب الذي لا يعرف الرحمة ولا يقبل العذر، والله وحده أعلم بحاله في المنزل لكنه في العمل ثقيل الدم يعاني أو يعاني الموظفون من زفارة لسانه ولا يتورع عن إهانة الموظف إذا أخطأ أو قصر، يريد من موظفيه أن يتحولوا إلى عرائس مريونيت، حركتهم آلية كالبندول، يصلون في ميعادهم فيما يتأخر هو، ولا ينصرفون إلى منازلهم إلا بعد انصرافه ولو تأخر ويجلسون إلى مكاتبهم لا يتركونها إلى الممرات حتى لو عنَّ لأحدهم أن يلتقط أنفاسه أو يشرب سيجارة.
وهذه العنجهية الفارغة كما يحدثنا حقي دلقت في جوف الموظفين جالونات من المرارة، علمًا بأن المؤهل الوحيد لهذا المدير السيء هو قسوته وعجرفته ولا يهم بعد ذلك علمه أو كفاءته، وحين تدخل الإدارة تجد كل شيء على مايرام لكن دع السطح وانفذ إلى الأعماق حينها سوف تشمئز من شيوع النفاق والمداهنة لأن الموظفين أصبح همهم قبل إنجاز العمل رضا السيد المدير ومع النفاق يكون الذل ولا نفاق إلا من ذليل ولا ذليل إلا المنافق.
وعلى النقيض نرى المدير الطيب أو الذي يقال أنه طيب والمعنى الحقيقي لهذه الكلمة هو استكانة الحملان وضعف أنصاف الرجال، إنه المدير الذي يألف الطبطبة على موظفيه وتخرج أوامره إليهم في ضعة الرجاء وربما شفع الطلب بكلمة " عشان خاطري " وهو يتودد إلى موظفيه فيناديهم بالاسم الأول كأنهم أصدقاءه فلا وجود للرتب والألقاب، والعجيب أنه أكثر إخلاصاً لعمله من ذلك السبع الفاجر والوحش الكاسر الذي نعته لنا يحيي حقي وأفاض في الحديث عن قسوته ومع ذلك يتخلى السادة الموظفون عن مديرهم الطيب فلا يجد مفراً من مباشرة العمل بنفسه، وهو يفلسف طيبته الزائدة فهؤلاء الذين يعملون معه ليسوا إلا أبناءه وعليه أن يصون كرامتهم ويعاملهم بالرفق وكله أمل أنهم سيتفهموا فلسفته وسيرتفعون إلى مستواها ويقومون بإنجاز العمل ليس آداءً للواجب فحسب وإنما أيضاً تطييباً لخاطره وحياءً منه.
وقد أثبتت التجارب أن هذا الحنون غارقٌ في الوهم وفاشلٌ تماماً في تسيير إدارته وينطبق عليه المثل (إن غاب القط العب يا فار) والحق أننا هنا لابد أن نختلف مع يحيي حقي فالفئران تلعب في حضور هذا القط ولعل فشله ذاك هو الذي يرفع من نجم السبع الذي تكلمنا عنه قبلاً.
لقد كتب يحيى حقي رسالته متمنياً على صديقه أن يصل إلى الوسط الذهبي أو الفضيلة بين الرذيلتين وألا يكون ليناً فيعصر ولا صلباً فيكسر فهل تراه استمع للنصيحة أم اشمئز من صاحبها الفيلسوف؟ إنها الآفة التي أرقت يحيى حقي وغيره من أهل الحكمة والأدب أن الفيلسوف لا يدير وأن المدير لا يتفلسف.