هل يتعمد إبراهيم عيسى تشويه التاريخ الإسلامي؟ (فيديو)
- الخميس 21 نوفمبر 2024
الكاتب جمال بربري
الضجيج يتصاعد، يصفع ويركل سكون الليل في عنف شديد، يهدم جدار الصمت؛ ليقذف بي إلى باطن القلق والخوف، أرمق الطريق.. لا شيء سوى الليل وقد استحال إلى كتل من الظلام يتكئ بعضها على بعض.
أسمع أصوات تئن ولكن لا وجود لها أمامي.. ربما أصبت بالجنون..
لكني ما زلت أمتلك قواى العقلية، وأعرف بالضبط ما هو اليوم في الأسبوع، والساعة التي في يدي تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، وأنني أعمل محررًا في جريدة، وأنشر كالعادة أخبار الأحداث الجارية بكلام معسول ووردي.
محوت من حياتي جملة "أنت صوت كل أخرس وجاهل"، حتى أتأقلم مع ظروف الحياة، وبالطبع ربحت من تلك المقايضة.. مسكن فاخر وسيارة، ومبلغ من المال يجعلني أعيش طوال حياتي سعيدًا.
تتراءى في ذهني صورة المرأة التي كانت تحمل ورقة تثبت أن طفلها مريض، وقفت أمامي تصرخ فيّ وكأنها تقول لي: أنت جبان وقلمك ضعيف.
جلست على المنضدة مستعدًا لكتابة مقالي الأسبوعي، وقبل أن أسطر حرفًا واحدًا، رنّ الهاتف، رفعت السماعة:
ــ من معي؟
ــ أنا من سقط من رحم الوجع منكس الرأس، حافي القدمين، غربت شمس أحلامي في حطام غيمة فيها رعد وبرق.
خائفًا متوجسًا، أعيدُ:
ـ من معي؟ أتمنى أن تذكر اسمك.
يرد بغموض:
ــ أنا العابس الذي لم تعرف شفتاه معنى الابتسامة، أوصدتْ دوني نوافذ الفرح، وفُتحتْ أبواب الحزن على مصارعها، وقد أرسلتْ صهدها في وجهي، وبِتّ ألتقط رزقي على رصيف الوجع.. نهشت جسدي رصاصات آثمة انطلقت من حياة بلا قلب.
تمكنتُ من تمييز الصوت، عرفته.. تغيرت نبراته كثيرًا فاستحال كما لو كان لشخص يحتضر.. قلت بحذر:
ــ ماذا تريد؟
جاءني صدى صوت غير واضح المعالم:
ــ أتمنى أن تغسل جسدي الميت وتصلي عليّ الصلاة الأخيرة.. وتدفنني وحيدًا في تلك الصحراء التي حاولت بالأمس أن أبني عليها أحلامي، وكأنها كانت أرضًا بورًا لا تنجب ثمرة.. هناك في تلك الأرض، في قبور الأحياء.
بسرعة ارتديت ملابسي، سرت في طريقي، أتذكر القصة التي حكي لي عنها ذلك المسكين.. عندما كنت أسير أتسكع في تلك الشوارع المظلمة وحيدًا بلا أنيس.
أول الغيث قطرة، أول الأحزان دمعة، غرسه والده في بطن أمه كما يغرس الزارع بذوره، ثم يتركها ويرحل، من الممكن أن ترويها مياه الأمطار، أو تعصف بها فيضانات وسيول، تتركه الأرض التي خرج منها ليصبح كالشجرة المقطوعة؛ فيتولى عمه رعايته، ويقحمه مدرسة الحياة..
يقبض عليه ضابط، حالة طوارئ، محضر تسول، يبكي يومًا بطول العمر في الحجز، ولا أحد يسمع صوت صرخاته، يتحرك قلب الصول "حسان" يخرجه على ضمانته، يذهب به لمنزل عمه، يسأل عنه فيخبره الجيران بأنه باع كل ما يملك ورحل إلى الخليج.
أخذ بيده، وقال:
ــ ولا يهمك يا بوحميد.. بكرة تفرج.. تعال معي نأكل وربك يعدلها.
يدخل أحمد منزل الصول "حسان".. حجرة وصالة، سبعة أولاد يفترشون الأرض في انتظار والدهم وما يحضره لهم.
عم "حسان" قوي يخافه الناس بمجرد مروره في الشارع، إلا أنه في بيته مسلوب الشخصية والإرادة، يعجز عن التحكم في هذا المربع، نهرته امرأته ليعود من حيث أتى بهذا الولد، تركهما وأطلق لقدميه الريح، في الطريق تاهت خطواته وسقط على الأرض من شدة الجوع.. بدا الإعياء على وجهه، التقطته سيارة، وحين استفاق، وجد نفسه في مخبز كبير يملكه "الحاج حسن".
الحاج حسن رجل ثري طيب القلب، رعاه بعدما وقع حبه في قلبه، ولشدة ما تحمله أحمدـ وسيتحمله من طرقات العذاب والألم على جسده ـ أطلق عليه الجميع "أبو حديد".
مرت الأيام، وتوالت السنون، وكبرت الشجرة التي رويت بمياه المجاري، مياه الأمطار، مياه الأحزان.
كان لقاؤنا أشبه بلقاء الغارقين، كل منا كان يحاول أن يتعلق بخيط الأمل ويداوي جراح السنين، أحبّ أحمد فتاته بعمق، وعشِقتْه بكل الهيام.. تم عقد القران.. أخيرًا ابتسم ذلك الحظ العنيد لـ "أحمد أبو حديد " لكن....
عاد الشبح الأسود ينسج خيوطه من جديد ليدمر المنزل الذي أراده عشًا للزوجية، ألجم الذهول اللسان، فقد الرغبة في الاستمرار، لم تستطع حبيبته المقاومة وتم الطلاق.
مرت الأيام.. يزداد الوضع سوءا، فشلت محاولاتي لإخراجه من المنزل الذي دُمّر في ليلة، سمع أصوات زغاريد الأفراح تمر أمام عينيه، فأخذ يقول كما لو كان شاعرًا يتألم، ويعزف لحنًا جنائزيًا بسيمفونية سريالية تدمع القلب والعين.
وجدت نفسي أمام ربع خرب سكنته العقارب، نسج العنكبوت خيوط الأحزان، الخفافيش احتلت المكان، مياه الأمطار والرياح تعصف بالنوافذ المحطمة، وحين دخلت وجدته قد أشعل الشموع السوداء، عددها خمس وعشرين شمعةً، وبآخر نفس في صدره حاول أن يطفئها.. لكنه فشل، فأطفأتها بدلًا منه، وكسرت قلمي..
ومضيت.