رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

تراب الميري وأوجاعه.. خلال مائة عام

  • حاتم السروي
  • الثلاثاء 11 يونيو 2019, 5:41 مساءً
  • 1401
الأديب يحيى حقي

الأديب يحيى حقي

تراب الميري وأوجاعه خلال مائة عام
عرض لكتاب تراب الميري للأديب يحيى حقي

يبدو للمواطن الذي رتب له القدر أن يذهب لقضاء مصالحه في إحدى الهيئات الحكومية أن الجهاز الإداري لدينا يعاني من مشكلات مزمنة لا يوجد أمل في علاجها فهي أمراض توارثتها أجيال الموظفين ولعل مرور السنوات وانقضاء العهود لا يزيدها إلا استفحالاً وهي تشبه الإيدز من حيث اعتراف الجميع بأنه مرض مدمر وفتاك ونهايته الوحيدة والحتمية هي الموت.

ومع ذلك لم تخلُ مصر من كتاب مصلحين تشبثوا بالأمل وحاولوا تقديم الحلول بعد توصيف المرض ومن هؤلاء الراحل الكبير يحيى حقي الذي ألف كتابه (تراب الميري) لمناقشة أزمات القطاع الحكومي، وهو الكتاب الذي أعادت دار نهضة مصر طبعه مؤخراً ويقع في 168 صفحة من القطع المتوسط ويشمل 34 مقالة تم نشرها في الصحف إبان فترة الستينيات وحتى عام 1971.




يحدثنا حقي عن بداية الأزمة فبعد أن صدر تصريح 28 فبراير عام 1922 ونالت مصر استقلالاً غير تام وأصبحت دولة ذات سيادة - وإن كانت سيادة صورية - أرادت السلطات المصرية أن تتخلص من جحافل الموظفين الأجانب الذين ملأوا كل الوزارات وتم الضغط على الحكومة المصرية حتى تدفع تعويضات لهؤلاء الموظفين الذين لا ذنب لهم - على حد تعبير الاحتلال- سوى أن الحكومة الوطنية تريد تمصير قطاعاتها، ورضخت مصر لهذا المطلب ودفعت بإسراف يبلغ حد السفه المتطلب للحجر تعويضات هائلة للموظفين الأجانب ( من المستشار حتى الكونستبل) ومنذ تلك اللحظة ويحيى حقي يقرأ في الصحف أخبار عن محاولات كثيرة لإصلاح العمل في هيئات الحكومة ومصالحها، علمًا بأنه كتب مقال " دوران قمر صناعي " الذي نحن بصدد الكلام عنه الآن في العدد 243 من جريدة التعاون بتاريخ 15 أكتوبر عام 1967، ما يعني أن كاتبنا ظل يقرأ عن محاولة إصلاح القطاع الوظيفي حوالي 45 سنة قبل أن يشرع في كتابة هذا المقال الذي يبدو لنا ساخراً في واقع الأمر، والأكثر إثارة للسخرية أنه بعد مرور 97 عامًا لازلنا نحلم بإصلاح الإدارات الحكومية!.

ويرى حقي أن المسألة ذات شقين، الأول منهما: القضاء على عيوب الروتين، والثاني: القضاء على تضخم الوظائف، ومن وراء هذين المطلبين تقبع مسألة أهم وأخطر من وجهة نظره وهي ربط المرتبات بمستوى المعيشة.

ثم نجد الحس الساخر ليحيى حقي يطل علينا من بعض ألفاظه التي شاء لها أن تخرج بالعامية إذ نقرأ له تلك العبارة الممتعة: ولهذه المسائل ذرية كثيرة كسيبان القمل منها مشكلة رقابة الموظفين، مشكلة مراجعة حسابات الحكومة، مشكلة التقاضي بين الموظف والحكومة، مشكلة الترقية بالأقدمية أو الكفاءة، ومشكلة الكادر الخاص..وغير ذلك كثير.

ولما أن عجز المسئولون في مصر عن الحل كان أن استقدموا خبراء من أوروبا فقالوا: هذه عقدة لا يحلها إلا من عقدها، واجتمعت لجان قدمت تقارير وبدلاً من قراءة التقارير تم وضعها في الثلاجة، آسف أقصد في الأدراج، أياً ما كان فقد تم إهدار الورق والحبر في تقارير لم يعمل بها أحد بل لم يقرأها أحد.

وكانت المحاولات كما ذكر يحيى حقي تشبه النواة التي أرادوا لها أن تسند الزير، وأصبح واضحًا تمام الوضوح أن عوامل الفساد أضخم من الجهود المبذولة للإصلاح وذلك أن عوامل الإفساد بدأت منذ اليوم الأول الذي تمصرت فيه الوظائف والذين ولدوا حينها مات معظمهم أو ربما كلهم وبقيت الأزمات حيةً تسعى.

لقد جأر المصريون بالشكوى من الغلو في مرتبات الموظفين الأجانب وانتفاعهم بالمزايا العديدة، فلما أن حلَّوا محلهم جلسوا في مقاعد الموظفين الأجانب وتقاضوا نفس المرتبات ونالوا نفس المزايا ثم قالوا: إشمعنى احنا !!.

ثم تعاقبت الأحزاب على الحكم في المملكة المصرية وحشد رجالها أنصارهم في وظائف الحكومة فزادوا الطين بلة، وأصيببت مصر في ذلك العهد بعددٍ محترم من العباقرة والنوابغ الذين وهبهم الله عقولاً ذرية أرادت أن تصلح فدهورت وأن تبدع فدمرت وبدلاً من الحل وجدناهم يضعون قنابل موقوتة، فمِن قائل منهم بفكرة تسعير الشهادات وليس الوظائف ومن قائل بفكرة من هم في الذكر ومن هم في النسيان إلى آخر هذه الأفكار الخارقة.

وتلاحقت بعد ذلك عوامل الانفجار التعليمي والسكاني وارتفاع الأسعار وانتفاع المواطنين بأمومة الدولة لهم كما قال يحيى حقي؛ مما زاد من ابتعاد نظام الوظائف عن الصورة التي ينبغي أن يكون عليها ليصبح جهازًا كفؤاً قادراً على خدمة الوطن.

إن أعداد الموظفين لدينا كانت ولا تزال متضخمة وإن هذا التضخم يعرقل سير العمل ويصف لنا حقي هذه الكثرة العاطلة من العاملين بالاسم فيقول بالحرف: إنني أدخل بعض الوزارات والإدارات فأخوض في لحمٍ بشريٍ متكدس عاطل، وإن هذا التضخم يهدم أية نسبة معقولة بين تكاليف العمل الإنشائي وتكاليف القائمين به؛ فلا تستبعد أن تجد لإدارة من الإدارات ميزانية يذهب ثلاثة أرباعها أو أربعة أخماسها في مرتبات الموظفين فنكون بهذا كمن صرف مليوناً من الجنيهات لإنشاء دكان كل بضاعته لا تزيد عن 50 ألف جنيه.

إن يحيى حقي في هذه المقالة يصدر حديثه عن روح وطنية خالصة وهو يحب مصر وإن كان هناك ما هو أرقى من الحب فهو يكنه لها وهو كما يقول: ولكن هذه المسائل كلها تشغلني لأني أريد أن أغمض عيني وأفتحها فأرى بلدي قد تخلص من كل العراقيل ووثب إلى الأمام، فأسمح لنفسي أن أفضفض ببعض الأفكار ولا أقول ببعض المقترحات لأنني واثق أن كلامي لن تكون له نتيجة عملية.

أما لماذا جعل عنوان مقالته " دوران قمر صناعي " فهو يخبرنا عن السبب وذلك أنه إذا وقعت عينه في صحيفة على أخبار اللجان المنعقدة لحل مشاكل المصالح والهيئات تغفو نظرته للتوّ ولا يقرأ شيئاً لأنه كما يقول: زهق من دوران هذه الأخبار دوران قمر صناعي حول الأرض في تكرار منتظم وممل.

وقد وصف الجهاز الإداري عندنا بأنه عمل فني رائع أخرجه عقلٌ مشوش ولو تم جمع خبراء المكر وأئمة الدهاء وخبراء التناقض والبرجلة والتعقيد والغموض والإبهام و" حاوريني يا كيكا " وطُلب منهم أن يدخنوا الحشيش على الريق في كل صباح وأن يطلقوا لتفانينهم العنان لما قدموا لنا بعد عمرٍ طويل إلا مشروعاً هيهات أن يفوق جهازنا الإداري في براعته!.

 


تعليقات