رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

"الكريم".. قصة قصيرة لعبير عبد الله

  • جداريات Jedariiat
  • الأحد 29 ديسمبر 2019, 5:53 مساءً
  • 2415
الكاتبة عبير عبدالله

الكاتبة عبير عبدالله

بيضاء، بضة، جميلة الوجه، ملفوفة القوام، هكذا يقولون، لكنني لم أشعر بهذا الجمال يومًا، أشتاق إلى من يهدهد مشاعري، من يسكن قلبي إليه، من يحترم عقلي وأحلامي، من تهدأ نفسي بجواره، من يضخ في عروقي الأمل ويروي فيها الحنين، من يجعل لحياتي معنى ومذاقًا، أشتاق، يئست، دب الأمل، مات الأمل ولم أمت.

حصلت على إجازة بفارغ الصبر.. الآن فقط أستطيع أن أنعم بالراحة، ليس لي إلا أمي المريضة وبيتنا الفقير، لن أخبره بأمر هذه الإجازة ولا بذهابي لأمي فقد أقسم على ألا أفعل، أيصعب عليه أن يجعلني مرتاحة الضمير فيعذبني به.

جلست تحت أقدام أمي وبللت يديها بدموعي، تناولنا معًا بعض الفاكهة التي يحرمني منها حتى لو اشتريتها أنا بمالي!، شبعت دعاءً من أمي وحنانها، وضعت جنبي جوارها على الفراش ولم أرفعه إلا موعد الانتهاء من عملي الرسمي المتغيبة عنه اليوم، لملمت نفسي وعدت، وقد عادت أوجاع الدنيا تتلبس جسدي كله.

- لماذا تأخرتِ؟!، أليس لك بيت ورجل حتى تسارعي إليه؟!، أم أنه لطول العهد بك لم..

لم يكمل، امتلأ قلبي غيظًا لإهانتي بأنه قد تواضع كثيرًا لزواجه مني وإنعامه علي بلقب "زوجة" بعد أن كنت "عانسًا" ولكني نظرت إليه باستسلام.

- ماذا تريد؟

 

- المطبخ يا هانم، وأشاح بيده كأنه يقول لي: "غوري".

دخلت المطبخ وجدته "يضرب يقلب"، القذارة في كل مكان، الأرض مبللة بها آثار للدهون، البوتاجاز متسخ، المواعين تملأ الحوض وبعض الحلل مركونة أسفله فعلمت أنه قد طبخ طعامه وتغدي مع أولاده، وجدت بقايا بعض الطعام في إحدى الحلل لا تكفي صبيًا صغيرًا أفرغتها في طبق صغير وغطيته حتى لا يسألني عنها على العشاء، تذوقت ما بها على طرف لساني، تخلصت منه بسرعة فهو يصمم على الطهو بطريقة عجيبة- استرشادية كما يسميها – لا ترضي أي إنسان إلا هو وأولاده وينهرني إذا حاولت أن أطهو له طعاما شهيًا مثل باقي خلق الله!

 دخلت حجرتي لأغير ملابسي، وجدتها أمام المرآة ترفع خصلة من شعرها بدلال بيد وتلملم أطراف قميصها بل قميصي أنا البيتي الخفيف على خصرها وتحبكه بشدة فيظهر جمال نهديها ودقة خصرها واستدارة ردفيها في وضع إغراء على ألحان أغنية خليعة تدندن بها ورائحة "بارفاني" الذي اشترته لي أمي في جهازي تملأ الحجرة كلها!، فار دمي وأنا أضع يدي علي بطني والأخري علي ظهري من شدة الألم.

 - ماذا تفعلين هنا يا مقصوفة الرقبة؟! ألا يوجد حياء؟!

ابتسمت في شماتة، وهي تشير إلي سريري وأوراقها وأدواتها المبعثرة عليه التي لم أتنبه لها.

- لاداعي للغلط يا أبلة!، بابا هو الذي قال لي أن آتي إلي هنا لأذاكر لأن حجرتي غير مرتبة.

 وهزت كتفيها وهي تساوي قميصها – قميصى- على جسدها.

ملابسي كلها في الغسالة وتحتاج إلى غسيل ومكواة وأنا لست فاضية فلدي امتحانات.

اشتد رفس الجنين لي، كدت أصرخ من الألم، خرجت إليه وأنا أمسك جنبي ثائرة.

- أرأيت بنتك وما تفعله؟!

- اخفضي صوتك ولا ترفعيه ثانية أمامى، البنت لم تفعل شيئًا وأنا الذي أمرتها بذلك؛ فلديها امتحانات.

 لم أجرؤ طبعًا أن أقول له كيف رأيتها ولم أخبره شيئًا عن بلاويها؛ فلن يسمع لي وسيحملني نتيجة أي خطأ يصدر عنها؛ فكتمت غيظي بصعوبة.

 

- هاها، لستِ أول من تحمل وتلد، احمدي ربنا- قالها باستهانة- وأنا لم أرد أي أطفال فلدي ما يكفيني والحمد لله.

- وأنا؟!

- .....

نظر إليَّ بقرف.

المشكلة مشكلتك أنت!

- ومشكلتك أنت أيضًا فلم يغصب عليك أي إنسان أو يضربك على يدك حتى تتزوجني، فتاة تجاوزت الثلاثين- عانس في نظرك- رغم أنك قد جاوزت الخامسة والأربعين بكثييير، الصغيرات كنّ أمامك، ولكن من منهن كانت سترضي بك أنت زوجًا؟! وبعيشتك تلك؟! وبأولادك الملاعين!

تمنيت أن يعطيني ربي ثوابًا علي رعايتهم ويعتبرونني أمًا لهم أو أختًا بعد أن فقدوا أمهم، لكن أمهم راحت عند ربنا وارتاحت وأنا التي جئت لشقائي!

تركته وذهبت إلى المطبخ وأنا لا أتمالك نفسي من البكاء، جلست على الأرض ومددت ساقي ورفعت يدي وأنا أشكو همي وألمي إلى الله وأدعوه أن يخلصني مما أنا فيه.

سمعت صوت قدميه آتية نحو المطبخ، تحاملت على نفسي وقمت وأنا أمسح دموعي، وقد تخففت من بعض ملابسي وارتديت مريلة المطبخ، رأيته أمامي.

- أعمل لك أنا الشاي؟

- نعم واعملي لنفسك إذا أردتِ.

- أنا لم أتناول طعامًا حتى الآن.

 كاد يسألني ولماذا لم تأكلي شيئًا في العمل؟! ولكنه نظر إلى الطبق الصغير ورفع غطاءه، يمكنك أن تأكلي هذا، قالها وهو ينظر إلى ذراعي العاريتين البضتين ويتحسس كتفي المستديرين مقتربًا مني.

لم أستجب له رغم نوبة الكرم المفاجئ وتشاغلت بعمل الشاي فاقترب أكثر.

أنا متعبة اليوم والمطبخ كما ترى!

- اتركيه الآن.

- لا، اغتصبت من نفسي ابتسامة خفيفة وأزحت يديه برفق، لا يمكن!

أخذ كوب الشاي وتركني بعد أن تأكد من أنه لا فائدة، بدأت أدعك المواعين بأقل ما يمكن من صابون حتى لا يحرمني منه كله، أيتعمد إهانتي والقسوة علي ثم يريدني؟!

لم أفهم أياً من تصرفاته، يقبل علي أيامًا وينصرف عني أخرى ويقاومني رغم شدة رغبته فيّ، أطعته في كل صغيرة وكبيرة، راعيت الله في أولاده، يمتص رحيقي بلذة ولا يفكر فيَّ لحظة.

 لمّا تأخر حملي استشرت صديقة، ربتت على كتفي بإشفاق ونصحتني بعض النصائح الخاصة.

- لقد استغفلك يا ابنتي، إياك أن يفوتك القطار!

 شاء الله أن يمنّ علي بنور الحياة، أسمعني الطبيب دقات قلبه، رقصت من شدة الفرح كفراشة سحرها الأمل، طوّقت عنقه وبشرته، أظلمت الدنيا في عينيه، أزاحني بعنف!

- أتخدعينني أنا ؟!، كيف حملت؟!، لا أريده، إما أنا وإما هو.

 

 تركني حطامًا وخاصمني فترة فلم يعطني أي مصروف للبيت، تكفلت أنا به وبأولاده، تفانيت في خدمتهم وتحملت نظراتهم إلي بقرف وسوء أدب، باستفزازهم المستمر لي، عسى أن يتراجع، من أجل ما في بطني، أكره أن أحمل اللقب السيئ "مطلقة" وعلى صدرها طفل أيضًا كما حملت من قبله لقب عانس.

شهر طويل سقت إليه من أعرف ومن يعرف إلى أن عاد مع أول الشهر، نجحت بأعجوبة في الاحتفاظ بجزء من مرتبي الهزيل لا يكفي مصاريفي ومصاريف العلاج ومتابعة حملي والإعداد للولادة!

 

- تصرفي، لا تضيعي أي فرصة"للأوفرتيم" ولا تتغيبي عن عملك حتى لا تضيعي الحوافز.

- وأنا حامل؟!

- رجعنا للموال القديم!

وافقت وأنا كلي أمل أن يتنازل عندما يشعر بي، لكن حملي ثبت، ولله الحمد، رغم ضربي بسبب وبدون سبب واستفزازه المستمر لي حتى يتكفل غضبي وانفعالي الشديد وثورتي أحيانًا- التي أخفيها دائمًا فيكتشفها ويتجاهلني- بإجهاضي دون تدخله، ويكفيني فخرًا لقب زوجة، زوجة الأستاذ عبد الكريم!.

خفت أن أزعجه أو أزعج أحدًا من أولاده لتعبي هذه الليلة، أخذت غطاءً خفيفًا لأنام على الكنبة في الصالة، أفقت على طلقات في جنبي وظهري جعلتني أصرخ بشدة، استيقظ فزعًا هو وأولاده.

- الحقني بسرعة، آه، سألد الآن، أحضر "تاكسي" حالاً وانقلني إلي المستشفى.

هرش رأسه وذقنه غير الحليق:

- وما فائدة عربات الإسعاف إذًا؟! سأتصل بهم وهم يعملون اللازم.

- لن أستطيع الانتظار، هناك شيء ينزل مني، الحقني.

  اشتدت صرخات الألم وطلقاته جاء على أثرها الجيران، حملني أحدهم مع زوجته في عربته إلى المستشفي الحكومي ولذلك فقط جاء معهم، تركني مباشرة بعد أن اطمأن لدخولي  "كشك الولادة، ولم ينتظرني حتي أخرج هربًا من أن يطالبه أحد بأي مصروفات ولو حتي "حلاوة المولود وقيام الست بالسلامة" بينما ظلت جارتي وزوجها معي حتي بشراني بـ"كريم" وقاما بكل اللازم من أجلي ومن أجل طفلي وعادا بي إلى بيت أمي، أما هو فلم يزرني إلا مرة واحدة اهتم خلالها بالتأكد من أنني لن أمد إجازة وضعي أكثر من ثلاثة أشهر فقط لا غير لأنها مدفوعة الأجر، وأوصاني بألا أقيم لطفلي "سبوعًا" هربًا من المصروفات، واحتفظ له بأي نقوط!

 أما ابني فلم يحمله بين يديه أو يقبله، حتي بعد أن ابتسم له ابتسامة تشرق لها السماوات، أظلم وجهه واعتقد أنه إن فعلها فسيكلفه ذلك أجرًا أو علي الأقل نقوطًا!

طلب مني توكيلاً حتى يستطيع أن يقبض راتبي نيابةً عني حتى يريحني من تعب المشوار، ولأستكمل "نفاسي" في بيت أمي وأسترد صحتي من رعاية أمي المريضة صاحبة المعاش الضئيل.

صرخت في وجهه: طلقني.

وأنا أقذفه بكل ما طالته يدي من أشياء.

- بخيل، أبخل من البخل نفسه، خسارة فيك ابتسامة طفلي أو لمسة منه.

 وقف أمامي مذهولاً وكأنني ناكرة جميله عظيم فضله عليّ! 

 آثرتني برودته الشديدة وكأنه يخشى على أعصابه فيوفرها، قذفته بزجاجة البرفان بجواري فأوجعت رأسه، مد يده إلى رأسه يتحسسها من الألم وهم ّ ليهجم علي ويضربني، وقعت عيناه علي الزجاجة لم تنكسر فمد يده وأخذها، نظر إليها وتشممها، وضعها في جيبه وعلى وجهه ابتسامة، اشتد غيظى، سمعت بكاء ابني كريم من الحجرة الأخرى، جريت لإحضاره، احتضنته، قبلته، هدهدته، سرت في أعصابي راحة وهدوء، ابتسم لي.

- لا أريد أن يعيش بين أم مقهورة وأب بخيل.

نظرت إليه بثبات:

- خسارة فيك أن أطلب منك طلاقًا، سأخلعك، ولأكن لابني وليكن كريمًا.

تعليقات