د. عباس شومان: اللغة العربية أشرف اللغات على الإطلاق
- الخميس 26 ديسمبر 2024
غلاف تفسير القرآن العظيم لابن كثير
من كنوز التراث ..تفسير سورة ألم نشرح
يقرأ الكثيرون منا سورة الشرح في الصلاة فيما يبدو أننا متعلقون بها
معنوياً لما لها من وقعٍ جميل على النفس حيث أنها تعلق القلوب بفضل الله ورحمته
وتعلمنا التفاؤل وترشدنا إلى أن مع كل صعوبة تيسير، وهي سورة قصيرة لكنها مليئة
بالمعاني الجليلة والحكم المؤثرة التي تنير آفاق القلب وتكشف أسرار الحياة.
وقد فسرها الإمام ابن كثير عليه رحمة الله في تفسيره المسمى بـ "
تفسير القرآن العظيم " المعروف اختصاراً بتفسير ابن كثير وكان شرحه مستفيضاً
في ومضاته ومعانيه، مدعماً بالأحاديث الشريفة وأقوال العلماء، وقد فسر الآيات
الكريمة لسورة الشرح بالجزء الثامن من تفسيره فقال:
يقول تعالى: " ألم نشرح لك صدرك " يعني: أما شرحنا لك صدرك؟
أي نورناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعا، كقوله تعالى " فمن يرد الله أن يهديه
يشرح صدره للإسلام " (الأنعام: آية 25) ، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه
فسيحًا واسعًا سمحًا سهلاً لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.
وهنا يتحدث ابن كثير عن سماحة الإسلام وتيسيره وسهولة أحكامه في
العبادات وتنفيره من التشدد والمجاوزة والغلو وهو الدين الذي يطلب من أتباعه البعد
عن شديد العبادة وكثير المجاهدة حتى لا يتلعب بهم الشيطان وإنما طريق المسلم هو
القصد والإعتدال وأن يعطي مولاه عز وجل حقه ويعطي بدنه حقه ويعيش لدنياه كما يعيش
لآخرته، وفضيلة اليسر هذه تبدو لنا في المعاملات أيضًا حيث يحرص الإسلام على سهولة
أحكامه وكل ما فيه منفعة الناس فهو شرعيٌ بامتياز وأينما كانت المصلحة فثَمَّ شرع
الله.
ويلفت ابن كثير النظر إلى ما ذكره بعض العلماء من أن المراد بالشرح هو
شق الصدر الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، وذلك لما ورد في
الحديث الذي رواه مالك بن صعصعة وأخرجه الترمذي، وعقَّب ابن كثير فقال: وهذا وإن
كان واقعاً ولكن لا منافاة؛ فإن من جملة شرح صدره عليه السلام ما حدث في ليلة
الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا، ومما يستحق الذكر أن شق الصدر لم
يحدث في الإسراء فقط وإنما حدث أيضاً عندما كان عمر النبي صلى الله عليه عشر سنين
وأشهر فقد أتاه ملكان وأخرجا من صدره الغل والحسد وأدخلا مكانها الرأفة والرحمة،
قال صلى الله عليه وسلم: " فرجعت بها أغدو رقةً على الصغير ورحمةً على
الكبير.
وأما قوله عز وجل " ووضعنا عنك وزرك " فإنها في معنى الآية
الكريمة " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " (الفتح: آية 2) وقد
اتفق المفسرون أن أفضل وأول ما يُفسر به القرآن هو القرآن نفسه؛ إذ أنه يصدق بعضه
بعضا، ومعنى " الذي أنقض ظهرك " فيما ذكره غير واحدٍ من السلف: الذي
أثقلك حمله.
ثم ينوه ابن كثير عن شرف النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته على الله
ومنزلته العظيمة وذلك أنه عز وجل يقول " ورفعنا لك ذكرك " قال مجاهد: لا
أُذكر يا محمد إلا ذُكِرت معي، وذلك أن المسلم يقول في التشهد: أشهد أن لا إله إلا
الله وأشهد أن محمداً رسول الله وهي مفتاح الإسلام وركنه الأول وتقال خمس مرات كل
يوم في الأذان.
وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة؛ فليس خطيبٌ ولا متشهد
ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السماوات والأرض قلت يا رب إنه لم يكن
نبيٌ قبلي إلا وقد كرَّمته، جعلت إبراهيم خليلاً وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال
ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى؛ فما جعلت لي؟ قال: أوليس قد أعطيتك
أفضل من هذا كله، أني لا أُذكر إلا وتُذكر معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرأون
القرآن ظاهراً، ولم أعطها أمة، وأعطيتك كنزاً من كنوز عرشي: لا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم ".
وحكى البغوي عن
حبر الأمة عبد الله بن عباس ومجاهد أن رفع الذكر معناه الأذان وأورد من شعر حسان
بن ثابت رضي الله عنه:
أغَرٌّ عليه
للنبوةِ خاتمٌ.. من الله من نورٍ يلوح ويشهدُ
وضم الإله اسم
النبيِّ إلى اسمهِ.. إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ
وشقَّ لهُ من
إسمهِ ليجلَّهُ.. فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ
وقال آخرون:
رفع الله ذكره في الأولين والآخرين، ونوَّه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيين
أن يؤمنوا به وأن يأمروا أممهم بالإيمان به ثم شَهَّرَ ذكره في أمته فلا يُذكر
الله إلا ويذكر معه.
وتلوح السطور
أمام أعيننا وهي تشهد بمحبةٍ جارفة وتعظيمٍ بالغ من الإمام ابن كثير لسيدنا رسول
الله فنراه يورد قول الصرصري رحمه الله:
لا يصح الأذان
في الفرض إلا.. باسمه العذب في الفم المرضيِّ
وقوله تعالى:
" فإن مع العسر يسرا " إخبارٌ منه جل شأنه أنه مع العسر يوجد اليسر، ثم
عاد فأكد هذا الخبر، وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه
قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله جحر فقال: لو جاء العسر
فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه، ثم تلا قوله تعالى " فإن مع
العسر يسرا ".
وقال بعض
الأفاضل:
إذا ضاقت بك
الدنيا.. ففكر في ألم نشرح
فعسرٌ بين
يسرينِ.. إذا فكرتَهُ تفرح
وقال ابن دريد: أنشدني أبو حاتم السجستاني:
إذا اشتملت على الياس القلوبُ.. وضاق لما بها
الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكارهُ واطمأنت.. وأرسَت في أماكنها
الخطوبُ
ولم ترَ لانكشاف الضُرِّ وجهاً.. ولا أغنى
بحيلتهِ الأريبُ
أتاكَ على قنوطٍ منكَ غوثٌ.. يمنُّ به اللطيف
المستجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهت.. فموصولٌ بها الفرج
القريبُ
وهكذا يبحر بنا ابن كثير في حديثه العذب
الودود الذي يمتع النفوس بجمال المعنى والأسلوب ورقة العبارة وسمو الروح.
وأخيراً يفسر ابن كثير قوله تعالى: "
فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب " فيقول: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها
وقطعت علائقها فانصب في العبادة وقم إليها نشيطًا فارغ البال وأخلص لربك النية
والرغبة، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:
" لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان "، وقوله " إذا أقيمت
الصلاة وحضر العَشاء فابدءوا بالعَشاء ".
وقال مجاهد: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى
الصلاة فانصب لربك، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال: إذا فرغت من الفرائض
فانصب في قيام الليل.
وهكذا يبدو لنا تفسير ابن كثير مصدراً
تراثياً جديراً باحترامه والإقبال عليه والاغتراف من معينه وفي هذا ردٌ على من
يبغضون التراث وأهله.