وقفة أمام قوله تعالى "أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر" !

  • أحمد نصار
  • السبت 04 يناير 2025, 06:59 صباحا
  • 39
الأرض الجزر

الأرض الجزر

وصف الله سبحانه وتعالى الأرض بصفات عديدة منها : الأرض المقدسة في قوله تعالى ” يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ “ المائدة 21 – الأرض الخاشعة في قوله تعالى ” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ “ فصلت 39 – الأرض الهامدة في قوله تعالى “وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” الحج 5– الأرض الميتة في قوله تعالى ” وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا” – الأرض الجرز كما في قوله تعالى{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ }السجدة 27 .

من أقوال المفسرين في بيان معنى الأرض الجرز، يأتي ابن كثير، ليقول : أنه سبحانه وتعالى يبين لطفه بخلقه وإحسانه إليهم، في إرساله الماء من السماء أو من السيح، وهو ما تحمله الأنهار وينحدر من الجبال، إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته، ولهذا قال تعالى( إلى الأرض الجرز) وهي التي لا نبات فيها، وأرض مصر رخوة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها فيسوق اللّه تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة.

وقال ابن عباس في قوله( إلى الأرض الجرز) قال هي التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً إلا ما يأتيها من السيول، وقال عكرمة والضحاك: الأرض الجرز التي لا نبات فيها .

من جانبه يقول الباحث في الإعجاز العلمي في القرآن، الدكتور شكرى عبدالسميع سليمان، أستاذ مساعد معهد بحوث البترول، إن الماء هو سر الحياة وأحد مقومات استبقاء حياة المخلوقات جميعا على سطح الأرض. ومن الجدير بالذكر أن عملية سقوط مياه الأمطار على سطح الأرض لا تتم بشكل متساو بسبب التفاوت الكبير لتضاريس سطح الأرض فهناك الجبال الشاهقة والوديان والسهول المنبسطة والبحار والمحيطات .

وتابع: أن تغير المناخ الناتج عن اختلاف الليل والنهار للفصول المختلفة هو أحد الأسباب الطبيعية التي تؤثر في عدم نزول الماء على سطح الأرض بشكل متساو. فالله وحده هو المتحكم في نزول القطر من السماء حسب الحاجة ،لا كثيراً فيهلك الحرث والنسل، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار، وكذلك حسب نوعية التربة فمثلا الأراضي التي تتميز بمسامية عالية ونفاذية قليلة لا تحتمل تربتها إنزال الماء عليها بغزارة و تحتاج ماءا كثيراً لزراعتها مثل التربة الطينية يسوق إليها الماء من أماكن أخرى، كما في أرض مصر، ويقال لها الأرض الجرز يسوق اللّه تعالى إليها الماء عن طريق نهر النيل .

وأردف قائلا: إنه من صور الرحمة الإلهية أنه سبحانه وتعالى، قام بتوفير آليات مختلفة لتزويد المناطق التي لا تسقط عليها كمية كافية من الأمطار بما يكفيها من الماء الذي يبعث فيها الحياة أو لا تصلح لإنزال الماء الكثير عليها مثل الأرض الجرز، ومن هذه الآليات سوق الماء كما في هذه الآية. وسَوْق الماء له عدة مظاهر: فالله تعالى يسوق الماء من السحاب إلى الأرض، فإذا نزل إلى الأرض ساقه في الأنهار، أو سلكه ينابيع في الأرض ليحتفظ لنا به لحين الحاجة إليه ثم يخرجه لنا على هيئة مياه جوفية عند حفر الآبار. قال تعالى “أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِۦ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُۥ حُطَٰامًا ۚ إِنَّ في ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰابِ ” الزمر21

وأوضح أن الفعل نسوق يحتاج إلى طاقة وتوجيه أي يوجه الله سبحانه وتعالى قطر الماء حيث أراد لها الإنزال فقطرة الماء تحتاج إلى طاقة لتبخيرها (حركة رأسية لأعلى) ثم يتجمع البخار ليكون السحب التي تحركها الرياح (حركة أفقية) قال تعالى {وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ… } [فاطر: 9]، ثم تتكاثف السحب فينزل الماء (حركة رأسية لأسفل) فيجرى فى الوديان والأنهار (طافة ميكانيكية) ثم يتحرك الماء في الترع ثم يرفعه الفلاح إلى الأرض وهذا يحتاج إلى طاقة مثل الشادوف أو الساقية قديما أو ماكينة رفع الماء حديثا فسبحان من هذا صنعه وتدبيره.

وأشار إلى أن المتدبر لآيات الله تعالى المنظورة من الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والأنهار ليجد أنها جميعا مسخرة في خدمة الإنسان. فالشمس هي المسئولة عن تبخير مياه البحار والمحيطات ( الدورة الهيدرولوجية ) من خلال الإشعاع الذي يصل إلى الأرض على شكل أمواج ضوئية وحرارية دون أن يتم رفع درجة حرارة الماء إلى درجة الغليان وهذا من لطف الله تعالى ورحمته بعباده ومن آليات كلمة نسوق :

1. طاقة الشمس متمثلة في تبخير المياه من البحار والمحيطات ورفعه إلى طبقات الجو العليا لتكوين السحب.

2. تعاقب الليل والنهار واختلافهما مما يؤدى إلى تغير المناخ الذي ينتج عنه هبوب الرياح .

3. الرياح تحمل السحب وتحركها من مكان لآخر وتكثفها فتسقط على هيئة أمطار.

4. نزول الماء على قمم الجبال الشاهقة والتي يزيد ارتفاعها على 4000م فتتحول طاقة الوضع إلى طاقة حركية.

5. نقل الماء من سفوح الجبال الشاهقة والمرتفعات بسبب اختلاف المنسوب ثم امتلاء الوديان بالماء قال تعالى ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ الرعد 17

6. تكوين الأنهار بسبب الصدوع وجريان الماء بها بسبب اختلاف الانحدار فمثلا نجد أن منسوب الارتفاع بين أسوان والإسكندرية يربوا على المائة متر مما يسبب جريان الماء في نهر النيل.

7. الآلات الزراعية لنقل الماء من الترع إلى الأرض تحتاج إلى طاقة.

وأضاف قائلا: إن وجه الإعجاز، يتمثل في نزول الماء على ارض لا تقبل الماء وإنما تمسكه لأنها صخور صماء تتميز بعدم وجود مسامية و نفاذية فهضبة الحبشة التي ينزل عليها ماء نهر النيل تتكون من البازلت، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: فعن أبى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجاذب، أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ” . من أنباك هذا يارسول الله……… قال نبأني العليم الخبير.

ونوه إلى أن الحقيقة العلمية تقول أن التركيب المعدني وكذلك خاصية المسامية والنفاذية للصخور تلعب دورا كبيرا في تقسيم الأرض من حيث قبولها وإمساكها وتخزينها للماء أو إنباتها للزرع والكلأ والعشب. فقد قسم العلماء الأرض إلي أنواع مختلفة مثل التربة الرملية والطينية والطميه، كما أن استعمال الفعل نسوق في هذا الموضع إشارة إلى أمرين: الأول أنه تعبير دقيق يدل على أن الماء يأتي من مكان بعيد حيث تشير كلمة نسوق إلى توجيه وتحريك الشيء دون إرادته إلى وجهة محددة والثاني أن خصائص هذه الأرض و تركيبها المعدني لا تستطيع استقبال ماء المطر الغزير عليها مباشرة ولا يكفيها الماء القليل لإخراج الزرع لذلك لم يستخدم الحق سبحانه وتعالى كلمة أنزل أو أنزلنا وهذا من لطف الله بعباده. وأيضا جاء الفعل بصيغة المضارع دليل على التجدد والاستمرار لاستحضار قدرة الله العظيمة في كل وقت.

وتابع: أنه من روعة البيان القرآني انه ذكر الأنعام أولا قبل الإنسان وهذا مناسب مع كلمة الزرع حيث جاء في لسان العرب الزرع هو طرح البذر وقيل كل ما هو أخضر غض أو ما ينبت بالبذر من شعير وقمح وذرة ونحوها أي أن الزرع مناسب لأكل الأنعام فمثلا نبات البرسيم مناسب لأكل الأنعام أولا، مع ملاحظة انه في مواطن أخرى يقول سبحانه و تعالى “كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ” طه 54، فالمراعي الطبيعية هي الأراضي التي تنمو فيها الحشائش والأعشاب بعد سقوط الأمطار ولا دخل للإنسان في زراعتها أو ريها علاوة على أنها تتكون من مساحات شاسعة من السهول أما الأرض الجرز لا تسق بماء الغيث مباشرة ولا تكفيها ماء المطر وتزرع وتحصد بواسطة الإنسان وذات مساحات صغيرة لا تصلح للرعي فسبحان من هذا كلامه سبحانه وتعالى.

 

 

تعليقات