ملتقى السيرة النبوية بالجامع الأزهر: النبي ﷺ عبد ربه بالتفكر والتدبر قبل أن ينزل عليه الوحي
- الأربعاء 01 يناير 2025
القلب
في سورة المؤمنون يقول رب العزة (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَة)، من أشهر معاني المُضغة: القلب، وقطعة لحم صغيرة ممضوغة (عليها مثل آثار الأسنان).
وقد اهتمت التفاسير، وبحوث الإعجاز بإظهار المعنى الثاني، حيث يتحول الجنين من علقة
بها دم جامد، إلى مُضغة ذات طبيعة لحمية، تشبه لقمة طعام صغيرة ممضوغة عليها أثر الأسنان،
بسبب القطع الجسدية.
يقول الباحث في
الإعجاز العلمي في القرآن، الدكتور محمود عبدالله نجا، الاستاذ بكلية طب جامعة
المنصورة، إن الذي يعنيه في هذا هو معنى القلب، وسُمي القلب مُضغة لكونه قطعة من لحم،
قال النبي (ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ،
وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ)، مُتفق عليه، لافتا
إلى أن بعض المفسرين كالقرطبي ذكر هذا الحديث في تفسير المُضغة، ولكن لم يُصرح بأن
المُضغة هي القلب، كون معنى آية (فخلقنا العلقة مُضغة) يحتمل إضافة عضو جديد للعلقة
لتصير مُضغة، مثل آية (خلقنا المضغة عظام)، فالعظام خُلقت في المضغة. يقول الرازي
(وسُمِّيَ التَّحْوِيلُ خَلْقًا؛ لِأنَّهُ يُفْنِي بَعْضَ أعْراضِها ويَخْلُقُ أعْراضًا
غَيْرَها، فكَأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَخْلُقُ فِيها أجْزاءً زائِدَةً).
وأردف قائلا: إنه لما كانت
المضغة تعني القلب، فنفهم أن الجزء الزائد الذي تمت اضافته للعلقة هو القلب، فصارت
مُضغة. ولأن العطف بالفاء في الآية، فنفهم أن تحول العلقة لقطعة لحم، وخلق القلب بعد
دم العلقة يكون سريعاً، وأن القلب هو أول الأعضاء خلقاً في العلقة، منوها إلى
اختلاف بعض الفلاسفة قبل الإسلام حول أول أعضاء الجنين، فبعضهم قال القلب، وبعضهم الدماغ،
وبعضهم الكبد، وبعضهم فقار الظهر، ولكن لم يجزموا بأحدها لعدم قدرتهم على دراسة الأجنة
بشكل علمي، مشيرا إلى ما ذكره في هذا الخلاف ابن القيم في تفسيره للمُضغة، وبين أنه
لا حُجة لهم إلا القياس الفلسفي، كما ذكر ابن سينا هذا الخلاف في كتابه القانون في
الطب، فصل تولد الجنين (ص ٩٠٨)، ولكنه حسم الخلاف بقوله (والحق أن أول عضو يتكون هو
القلب)، ووصف نمو الجنين بمصطلحات القرآن، فقال (والحال الأخرى ظهور النقطة الدموية
في الصفاق، وتحول رغوة الجنين إلى الدموية، وتحول المني إلى العلقة، ثم التحول إلى
المضغة، وظهور القطع اللحمية للأعضاء، فيظهر لها انفصال محسوس، إلى أن يتم تكون القلب،
والأعضاء الأولى). وقد اعترف العلم بالسبق لإبن سينا في جعل القلب أول أعضاء الجنين
ظهوراً ، وعليه فمصطلح المُضغة يصف تغير شكل الجنين من دم إلى لحم، وخلق القلب داخلياً.
فهل يوافق العلم أن القلب هو أول الأعضاء خلقاً بعد انتهاء مرحلة العلقة؟
وتسأل "نجا"
هل المُضغة في القرآن مرحلة واحدة أم مرحلتان؟ فقد ذكرت المُضغة في القُرآن في آيتين،
بوصفين مُختلفين للدلالة على مرحلتين وليس مرحلة واحدة، ويتمثلان في :
١.
تشير آية المؤمنون (فخلقنا العلقة مُضغة)، إلى المرحلة الأولى وهي بداية المُضغة، حيث
العطف بالفاء يفيد التحول السريع للعلقة خارجياً بما يشبه قطعة لحم ممضوغ، وداخلياً
بظهور القلب، وكلاهما علامة على تحول العلقة إلى مُضغة، ولأن ما خُلِق في العلقة قليل،
فقد ناسبه الفعل الماضي خلقنا، وليس اسم المفعول مُخلّقة (كثرة التخليق).
٢.
وتشير آية الحج (ثم من علقة، ثم من مُضغة مخلقة وغير مخلقة)، إلى المرحلة الثانية،
والتي تصف تحول العلقة بالتدريج البطيء إلى مُضغة كثيرة التخليق، فيظهر مع خلق لحم
القلب، خلق لحم أعضاء أخرى، ولهذا ناسبها اسم المفعول مُخلّقة، وناسبها أداة العطف
(ثم)، التي تفيد الترتيب والتراخي. فهذا الإختلاف في تركيب الآيتين، من حيث الفعل
(خلق، مُخلّقة)، وأداة العطف (الفاء، ثم)، يثبت أن القلب يُخلق أولاً في العلقة، ثم
يتسارع التخليق لاحقاً لتصبح المُضغة مُخلقة وغير مُخلقة.
وأضاف : فهل يوافق العلم
أن القلب يُخلق وحده في نهاية العلقة، ثم يتسارع التخليق لاحقاً بعد خلق القلب؟
مشيرا إلى الدلالة اللغوية، والعلمية لخلق الناس من مُضغة، مصداقا لقوله تعالى
" (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ
فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُخلقة وغير مُخلقة)، الحج، موضحا أن خلق
الناس من تراب يشمل آدم وذريته، بإعتبار أن الله خلق آلة التكاثر في آدم من تراب. ثم
خلق الله الإنسان وذريته من نطفة، فالنطفة فيها جينات لخلق جسد الإنسان، وأخرى لخلق
أمشاج ذريته (أذكرها لاحقاً في بحث النطفة). ثم خلق الله الإنسان وذريته من علقة، وذلك
بخلق المُعيدة (الجاسترولا) التي منها خلق أعضاء الجسد، وخلق الخلايا المشيجة الأولية
للذرية في كيس المح الذي يغذي العلقة.
وتابع أنه في هذه الآية
نجد أيضاً أن الله ذكر خلق الناس من مُضغة، وهذا يقتضي خلق جسد الإنسان وذريته من المُضغة،
فلابد أن المُضغة فيها تخليق لجسد الإنسان، ولشيء ما تكون منه الذرية، فهل يوافق العلم
على أن الإنسان وذريته يُخلقان من المُضغة؟ مشيرا إلى العلم الحديث أثبت أن القلب هو
أول أعضاء الجنين خلقاً، حيث يبدأ تخلقه من طبقة الأديم المتوسط، في اليوم ١٨ أو
١٩، بالتوازي مع تكون القطع الجسدية (٤ - ٧). والسبب في أن القلب هو أول الأعضاء خلقاً،
أن هناك مجموعة جينات وعوامل نمو بروتينية تنشط مبكراً بنهاية تكون المُعيدة، وتعمل
على تنشيط خلق القلب من الأديم المتوسط، وفي نفس الوقت تُثبط تكون باقي الأعضاء ليومان
أو ثلاثة بعد بداية القلب، حيث أنه مع بداية نبض القلب في اليوم (٢١-٢٣)، تتفجر كل
طاقات الطبقات الجنينية الثلاث، فيتخلق منها بدايات الأعضاء على مراحل مُتتالية. فتتمايز
طبقة الأديم الداخلي إلى الجهاز الهضمي، والخلايا المُبطنة للرئتين، والكبد والبنكرياس.
وتتمايز طبقة الاديم المتوسط إلى مكونات الجهاز الدوري، والرئتان والكليتان، والغدد
التناسلية (الخصية والمبيض)، والعظام والعضلات، والطبقة الداخلية من الجلد. وتتمايز
طبقة الأديم الخارجي إلى المخ، الجهاز العصبي، وطبقة الجلد الخارجية، والشعر والأظافر
(٢-٤).