شاهيناز الفقي تكتب: سوسيولوجيا الأدب الإفريقي بين السرد التاريخي وشخصية المكان في "ترجمان الملك" لعمر فضل الله
الكاتبة شاهيناز الفقي
رواية ترجمان الملك للكاتب السوداني عمر فضل الله، تجري أحداثها خلال حقبة مهمة في القرون الوسطى في بقعة من العالم ربما تكون غائبة عن ذهن القارئ العربي، وهي منطقة الحبشة في شمال شرق أفريقيا، يهتم فيها فضل الله بالتاريخ وبحكم قربه من المنطقة التي جرت فيها الأحداث فقد استطاع بمهارة أن يروي لنا تاريخ يغفل عنه الكثيرون، وقد استند في روايته للمصادر الموثوق منهامثل كتب السيرة والحكايات الشعبية والأساطير.
المفتاح الأول أو العتبة الأولى للنص هو العنوان ومن المعلوم أن سيمائية العنوان هي النسق الأول للدلالة على بنية النص وجوانبه الفنية، وهو بمثابة الشعاع الذي يضيء للقارئ ما استشكل عليه في النص، وقد جاء عنوان ترجمان الملك للدلالة على شخصية البطل والشخصية الرئيسية في الرواية وهو الملك النجاشي.
الإهداء أماط اللثام عن محبة تصل حد القداسة والتبجيل الشديد من الكاتب للنجاشي، ومن منا لم يعرف أو يسمع عن نجاشي الحبشة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملك لا يُظلم عنده أحد وعادل في حكمة كريم في خلقه" والذي آوى المسلمين إليه عندما اشتد بهم التعذيب فآواهم، ورفض تسليمهم لقريش وأحسن ضيافتهم وعند وفاته في السنة التاسعة صلى عليه سيدنا محمد صلاة الغائب قائلًا لأصحابه: "قوموا فصلوا على أخٍ لكم مات بغيْر أرضكم".
ولكن للحكاية بعدا آخر استمتعت به في رواية الكاتب عمر فضل الله، وقد استخدم في السرد أسلوب التأطير أو الحكاية داخل الحكاية ومن هنا اختلفت زوايا الرؤية، فالراوي يستدعي لنا سيسي بن ابيلو ليحكي لنا قصته ليقرر ذلك المُستدعى من الماضي أن يزيح الراوي ويروي هو حكايته قائلًا: "سوف أتولى رواية قصتي بنفسي في الصفحات التالية لن أسمح أن يرويها أحد غيري".
يبدأ الحكي عن جده دلمار ترجمان النجاشي وكاتبه لملوك العرب، لندخل في حكاية أخرى هي حكايات الجد عن علاقته بهاشم جد أبي طالب من الجزيرة العربية وكيف كان يحبه، وهو صغير في السن فيطعمه الثريد ويتعجب من سرعة إتقانه للغة العربية، ويتجلى هنا شدة إعجاب بن ابيلو بجده فهو يصفه بأنه كان حكيمًا وله معرفة مدهشة بالرجال ونظرته ثاقبة وحكمه صائبًا لا يخطئ.
ومن خلال الحكي عن الجد يحلق بنا لمتعة أخرى في حكايات أخرى على لسان الجد وهو يحكي للحفيد عن علوة وأكسيوم وسوبأ الجديدة ومملكة سبأ القديمة، عاداتهم ومظاهر الحياة في تلك المناطق وعن رحلاته لإخميم وإيكبوليس (أسيوط) وغيرها، ويحكي له قبل موته عن النجاشي أصحمة بن الأبجر وقصة مقتل أبيه، وحادثة خطفه لبيعه في سوق العبيد وكيف تم تخليصه من بين أيادي التجار وتنصيبه ملكًا.
يدخلنا الراوي (سيسي بن ابيلو) بعد ذلك في تفاصيل عالمه. البيت الذي نشا فيه وأمه تانيشا، علاقته بجده واختفاء والده المريب حتى إن الجد يعنفه عندما رآه يرتدي قميص أبيه، زياراته للكنيسة وأسئلته الدائمة للأب يؤانس وللجد مما ينم عن شغفه للمعرفة، سنجاتا الحب الأول والقبلة الأولى تحت شجرة الأراك.
ننتقل معه لجزية التمساح حيث الساحرة سيمونة وبنات اليهود من بني قريظة وبنو قنيقاع اللاتي يرسلهن الأهل لتعلم السحر الأسود، ودور هذه الساحرة في حراسة التابوت المقدس الذي نقله اليهود لكنيسة مارية في شمال أفريقيا.
من اليهود والكنيسة وتعاليم الكتاب المقدس لرحلة العرب للحبشة فارين من بطش وتعذيب قريش لهم وكيف استقبلهم النجاشي وأحسن ضيافتهم، وصداقة نمت بين سيسي بن ابيلو والزبير.
يتطرق الكاتب لقضايا مهمة مثل تجارة الرقيق من تعرضه لقصة خطف النجاشي أصحمة بن الأبجر لبيعه في سوق العبيد بعد مقتل أبيه الملك حتى يبعده الوزراء عن الحكم ويستفيض في الحديث عن هذه التجارة الغير إنسانية، وكيف كان التجار يغيرون على القبائل فيخطفون النساء والغلمان لبيعهم ونفوذهم وسيطرتهم على الوضع في تلك المناطق.
وجانب من حياة العرب من خلال الأحاديث بين نسوة سوبأ وبين المهاجرات إلى الحبشة فيتحدثن عن الختان ورفض العرب الختان الكامل للفتاة الذي يضر بها في الزواج والولادة بخلاف اليهود الذين يعيرون المرأة التي لم تختن ختانًا كاملًا.
استخدم الكاتب أسلوبا سلسا للحكي لغة راقية، بناء الشخصيات موفق جدًا، استفاض الكاتب في وصف المكان بما يتناسب مع طابع الرواية المعرفي السيسيولوجي إن جاز التعبير.
الكاتب عمر فضل الله الحائز جائزة الطيب صالح عن رواية تشريقه المغربي وجائزة "كتارا" عن رواية أنفاس صُليحة وله العديد من الروايات الناجحة، استطاع أن يفرض الأدب الإفريقي العربي بقوة على الساحة المتعطشة لأدب جديد مختلف عما ألفناه في عالمنا العربي.