د. حسام عقل يكتب: شرقاوي حافظ.. شعرية (المصلح المغدور)!

  • أحمد الفولي
  • الإثنين 09 ديسمبر 2024, 08:59 صباحا
  • 44

برصيد شعري مترع بالجدة، مفعم بالحس الحداثي، شارف نحوًا من سبعة عشر ديوانًا، من شعر الفصحى تحديدًا، يضمن الشاعر التفعيلي "شرقاوي حافظ" لذاته، موقعًا صداريًا في واجهة المشهد الشعري الراهن، ببنائه الشعري المتماسك و تيماته المميزة، وبنيته العروضية فريدة (الجرس)، ونسق صوره وأخيلته الفذّة، المشدودة -في أكثر تجلياتها الفنية والترميزية والتخييلية- إلى فكرة "المصلح المغدور" الذي انفض عنه الجميع، ليواجه وحده القتلة بصدر مفتوح، في ملحمة أقرب إلى دلالة "الأوديسا الجديدة" بعد أن غربت شمس الملاحم ذاتها، في عصر المدونات الأدبية الخاطفة!.

ويبدو لنا عنوان "المصلح المغدور"، هو العنوان الأكثر ملاءمة، إذا ما قمنا بإجراء أسلوبي محدد ، على طريقة "ستيفن أولمان " الباحث الأسلوبي الذائع، أعني تجميع ضفيرة الصور الشعرية، الماثلة في مجمل تجربته الشعرية، للوقوف على خيطها المركزي الدلالي الجذري، الأكثر ترددًا والأشد هيمنة، والأوفر تغلغلًا. حيث يتضح لنا -بالمقاربة النقدية المتقصية- أن الذات الشاعرة، تصور لنا تمثالها المنحوت، في كل مرة، في معظم ملاحمها المصورة، عبر مساحات التجربة الشعرية بالعموم، "أوديسيوس" جديدًا يخوض بسلاحه، ملحمته الخاصة، بعد أن خذله من حوله ،حتى رفاقه الأقرب! وهو ما حداه، في كثير من مونولوجاته الدالة، المهيكلة بنيويا باحترافية، السابحة على سطوح قصيدته، أن يقنع بأن ينصح ذاته بأن تعانق جنونها، و تكتفي به، و تلوكه وحدها، في كوكب (مقبض) خلا من النبلاء، أو (خلا من الوسامة)، بتعبير الراحل "صلاح عبد الصبور"!.


بدأت مسارات شاعرنا مع القصيدة -التفعيلية- من ديوان: "راقصات في معبدي" (1988)، وتتالت تترى عبر دواوين ارتقت سنام محطات مميزة (رغم غياب التغطية النقدية المهنية، لهذه الرقعة اللافتة من خارطتنا الشعرية المعاصرة)، من مثل "ارتعاش، ( البرونز " ( 2003 ) و"أحلام البنفسج" (2004) ، و"عربد الماء" ( 2005)، ثرثرة فوق ضفاف الصمت " ( 2012 ) ، و بدت بعض ( الثوابت ) التي تجسدت في نصوصه المبكرة، و اح تفظت بتجسدها الجلي -دون مساحات مهوشة- في دواوينه الأحدث، من مثل "من ذاكرة الوشم" (2021)، فمازال "أوديسيوس" الجديد، الممتليء بفكرة المصلح النبيل، يخوض ملاحمه، ومازالت الجموع، التي نافح عنها، وناضل من أجل حاضرها و مستقبلها، تخذله وتنفض عنه، أو تشكك في رؤيته الإصلاحية، وفحاوى رسالته!.

وحين نقول هنالك ( ثوابت ) لا جدال في تجذرها و ترسخ حضورها، فإن هنالك -إلى جوارها- (متغيرات)، سمحت بمساحة معتبرة من التجريب الفني والبنيوي الشامل، وتنوع التيمات الطيفية، والتجدد الجمالي الدينامي.

احتفظت تجربة شاعرنا برقعة مميزة خصيبة، بامتدادها إلى مسارب متنوعة ومساحات دالة، أضافت إلى رصيده المكين الراسخ من شعر الفصحى ، فهنالك ديوان بالإنجليزية ، وتجربة شعرية بالاشتراك "مدد يا فرات" (2003)، فضلًا عن تجربة مثيرة في قصيدة العامية، وهنالك محاولات مسرحية لافتة ممثلة في "مدار الشرقاويزم" (من أدب الخيال العلمي)، فضلًا عن إبداع مسرحي يتوشح بالشعر ، و لا يبعد بنا عن ممالكه، ممثلا في مسرحية "عودة المعري" ، لتزدان مسيرة شعر الفصحى، بتاج "المسرح الشعري"، التكوين الأدبي، الأشد وعورة واستعصاء وروعة.

لكن المجتمعات الأدبية في أوطاننا، عرفت " شرقاوي حافظ " -في الأساس- "مترجما" متضلعا، أبحر في الأدب العالمي، ونقل لنا كنوزه الخبيئة، من إنجلترا حتى ليتوانيا.
فهو الذي ترجم إلى العربية المصقولة الأنيقة، رواية "امرأة من القاهرة" لـ"نويل باربر" ، و"القداس" لـ "نيفل شوت" و"آدم بيد" لـ"جورج إليوت"، و غيرها من الأعمال الرفيعة، و لم تخل من ترجمات أهابت بالشعر، وصدحت في محاريبه، من مثل "بلبل ليتوانيا"، الذي جمع أشعارًا للأديبة الليتوانية: "سالوميا نيريس".


ولا نزاع أن هذا التطواف بخرائط الأدب العالمي، قد منح شعريته ما يمكن أن نسميه -في هذا السيا ق- "حسًا كوزموبولوتانيا"، يرتفع بالعرضي إلى السرمدي، و يعلو بالفردي إلى الإنساني، ويخاطب بالمكان (الواحد) كل الأمكنة مجتمعة (الفضاء الطوبغرافي المترامي بالعموم) كما أنه يتحدث عن " إنسان " عربي مأزوم مثخن بالجراح ، و عينه على كل إنسان ، تجمعه بـ"إنسان شرقاوي" دالة المعاناة والتأزم والتطلع لفضاء الحرية.

توسعت الذات الشاعرة -بتعميق الترمي تحديدا-  في الدوال و التيمات، فالمعشوقة ليست مطلق المرأة لكنها، بتعميق الجهاز الرمزي في القصيدة (فضاء الحرية) ومراحها وقطوفها الدانية، وهو ما يتأكد لنا في قصيدة: "متسع"، ومطلعها:

"من أي بحر أتاك الموج مندفعا

لكي بيث إليك الحزن و الوجعا؟"

حيث تناسجت دالة المعشوقة، في صلب البنية التصويرية والاستعارية للقصيدة ، لتصبح هي "متسع الحرية"، أو أريحية العالم، هذا العالم الذي تشقق في صور القصيدة، و تشظى مزقا، ثم ضاق تدريجيا ليجهض احلامنا و يخنقها:

" ما ضاق بحر بسجن من شواطئي

إلا و صادف في عينيك متسعا"

ويتأكد معنى "المصلح المغدور" -الدالة المركزية في التجربة- في قصيدة: "المنبوذ"، حيث تتجذر دالة المصلح المفعم بأحلام النبوة، و قد هجره الجميع، و تخلى عنه أقرب خلصائه (الذين كانوا

خلصاءه يوما!) و هنا لا تجد الذات الشاعرة مندوحة، عن أن تخاطب هذا المصلح المغدور ، لتبذل له نصحا بأن يقنع بذاته و"يسكن جنونه" وإن اختصمه الجميع، أو أمعنت الجموع في معاداته وكسر إرادته:

" الرفضون يسيجونك بالجنون

و ملاكك الموعود هاجر للسماء

فاسكن جنونك و استر ح.."


و لم تأل الذات الشاعرة جهدا -عند هذا المنعطف- في استنفار أدبيات العدالة الاجتماعية، وإشهار بيارقها بقوة، من خلال توظيف هذا التعبير الطازج المبتكر: "حدود الخبز":

" .. في قلب الورد الذبيح

على جباه السائرين

على حدود الخبز

قاهرتي تئن .. "


وهنا مدت الذات الشاعرة أطواق الدلالة المركزية و أشواطها بتوسع  -فكرة المصلح النبيل / العلوي- بترسيخ نمط واضح من المماهاة بين "المصلح" و"النبي"، في ثنايا استدعاء تناصي، من متون "شوقي" وأخيلته الطافرة: "فالاشتراكيون أنت إمامهم"، لينسج على مغزلها نوله الدلالي المبتكر، ونسيجه التصويري الجديد:

( فالاشتراكيون انت إمامهم )

و أنا إمام الضائعين

فوق الأسنة و الكفاف .. "

و كما حدد " أوديسيوس " في ملحمة " الأوديسا " هدفه قديما ، بإنقاذ رفاقه ، و العودة المظفرة إلى

وطنه " إيثاكا " ، فقد حدد " اوديسيوس " الجديد هدفه _ هنا _ بإمامة الكادحين و قيادتهم للحرب

الكبرى لاسترداد " لقمة خبزهم " ، و إنقاذ " إيزيس " التي " يطلبها الزناة " :

" فاحترس

إيزيس يطلبها الزناة

فتغزل الثوب الممزق في نهار الكادحين

و الكادحون ب يودعون نبيهم

و يبشرون نفوسهم بالمنتظر .."

و عند هذا المنعطف الدامي ، من المواجهة يتد حرج المصلح النبيل _ المغدور ! _ إلى مصير " الصلب "

 شأن مصلحين سبقوه :

" يا أيها المفتون بالفلك الذي

صلبوك فوق حطامه

هل جئت بالنبأ الجريء

يا أيها المجنون بالحرف المعطل في ضمائرهم .."

و يكون التذييل بالنصح ل " المنبوذ " بأن " يسكن جنونه " مستغنيا مكتفيا :

" يا أيها المنبوذ لا .. لا تعترف

و اسكن جنونك و استرح .." !

و تلوينا على الدالة ذاتها ، تعاود قصيدة " نبوءة " وطء أرضها المفضلة ، بما يشبه التطاوس النرجسي

هذه المرة ، لتمنح الملحمة نفسا قداسيا ، و تؤكد من جديد ، نبل المصلح _ أيا ما كانت العوائ ق و

عثرات الطريق _ و هنا تحتشد التناصات و الاستدعاءات التراثية المتراكمة ، التي تدنيه من دور النبوة ،

و تدني قومه من دور الجحدة الذين أنكروا نبل نبيهم ، و خذلوا رسالته :

" في البدء كنت انا

و كان البدء سيفا

و المسافة بيننا حرف يتيم .."

لم تخل التجربة من ولاءات رومانتيكية متجذرة ، خالصة لدلالة العشق و تباريحه ، ذكرتنا بأنفاس علي

محمود طه و الهمشري و نعيم ة و أضرابهم ، كما في قصيدة : " ملامحي " ، أو قصيدة : " اشتهاء "

، و هي شريحة وجدانية بدت فلذة حية من تجربة شاعرنا ، و خيطا فنيا واضحا لا يمكن تجاهله ، ف ي

شبكة خيوطه المتداخلة الدالة .

و عند قصيدة " المهزلة " ، يتضاعف يقيننا بأن من بدأ وحيدا ، قد عاد _ في خاتمة الرحلة _ وحيدا

يلوك فراغه و يمضغ وحدته :

" وحدك في المهزله

تصارع الحلم و طوفانا من الأسئله

و الحزن شباك السعادة الوحيد

فافتح الجرح على أحزانك المقفله .. "

لم تخل تجرب ة " شرقاوي حافظ " من مغامرة عروضية ، لونت في البنية الموسيقية ، و عابثت الأفق

الخليلي ، في بعض منعطفاتها الفاعلة ، ففي قصيدة " تهويمات " ، مازج في القصيدة الواحدة بحور

البسيط و الكامل و الطويل و الوافر . و هو بعينه ما صنعه في ديوان " أحلام البنفسج " . و في بعض

قصائده قنع بشطر الخفيف أو بشطر المديد ، بل إنه استدعى من ذاكرة العروض الخليلي _ بعد طول

هجران _ بحر " الدوبيت الفارسي " الاشهر في قصيدة " سمراء " ( من ديوان " راقصات في معبدي "

) ليؤكد لنا أن المكون الخليلي لم يكن بعيدا عن لعبة التجريب الفن ي ، و لم يكن بمنأى عن مغامرة

أوديسيوس ، التي طالت العالم و القصيدة على السواء .

تعليقات