نجيب محفوظ مترجمًا

  • معتز محسن
  • الإثنين 18 نوفمبر 2019, 5:01 مساءً
  • 1332
الباحث معتز محسن

الباحث معتز محسن

كلنا نعلم جيدًا أن نجيب محفوظ روائيًا من طراز فريد ، استطاع أن يحفر اسم الرواية العربية في بوتقة العالمية وقت حصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1988 إلى جانب إسهامه الكبير في عالم القصة القصيرة ، فمن ضمن الأعمال المختارة في حيثيات فوزه بنوبل ، مجموعته القصصية "دنيا الله" الصادرة سنة 1962.

لكن المدهش والجديد في عالم محفوظ السرمدي ، بدايته مترجمًا وقت إقتحامه لعالم النشر في العام 1932 بترجمته لكتاب عالم اللاهوت والآثار الإسكتلندي جيمس بيكي بعنوان "مصر القديمة" والذي كتبه في العام 1916 ، وقت سعي مصر للحصول على الاستقلال المنشود عبر الإعداد لتلك المرحلة المنتظرة من خلال إستعادة الهوية التي نبتت في أرض كيمت صاحبة أعرق حضارة في العالم.


جيمس بيكي المولود في العام 1866 والمتوفى في العام 1931 أي قبل نقل كتابه للعربية عبر أمير الرواية المنتظر بعام واحد ، لم يزر مصر ولا أي بلد شرقي نقب عن آثاره بحب وولع بالعلم والمعرفة ، بل عاش في أغوار التفاصيل الواقعية عبر التأمل والتخيل بقريحته المبدعة في خلق الصورة المتوقعة حسبما تناقلتها العيون والأقلام التي عايشت الحقيقة من الألف إلى الياء.

جمع بيكي بين حنكة العالم وتأمل المتصوف من خلال جمعه بين الآثار والدين في مؤلفاته التي أكدت على أن الشرق هو مهبط الروح والإيمان في عز إستئساد الإمبريالية ما بين أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرون ، محللاً دون أن يقصد في "مصر القديمة" لماذ إحتلت بريطانيا مصر ؟!


غاص محفوظ مع عالم بيكي بعين الروائي وقلب الفيلسوف أثناء دراسته بكلية الآداب ، مستنتجًا الأسباب التي أدت إلى احتلال بريطانيا لمصر في العام 1882 ورغم ذلك تجد بعض التبريرات القلبية تجاه الوطن الأم لتلك الخطوة ، مستعينًا بالأدلة الدينية الواردة عن عظمة مصر في العهد الجديد.

قدم في كتابه كيف كانت تحيا مصر ؟ وكيف عاشت بأركانها الخالدة على مدار تلك السنين الطويلة مبهرة العالم ومجبرة إياه على الإنحناء لقوام العراقة القائم على الدوام في البحث والإستقصاء والتساؤل المستمر كبطاقة توكيدية على خلود الإنجاز بجدار الزمن.

أتت تلك البراهين في فصول كتابه كالآتي : رض ذات شهرة قديمة، يوم في طيبة، فرعون في القصر، حياة الجندي، حياة الطفل، بعض الأساطير، استكشاف السودان، رحلة استكشافية، الكتب المصرية، المعابد والقبور ، قدماء المصريين والسماء".

بعث لأوروبا الحقيقة الغائبة بين أنياب الإمبريالية العالمية المدعية لأسبقية خلق بروتوكولات حقوق الإنسان والإتيكيت وغيرها من المصطلحات ، وكأن الحضارة الإنسانية قوامها الغرب ليأتي القس رافعًا شعار الحق في وجه الأكاذيب الضارية مؤكدًا على أن عنوان كل هذا في حضارة مصر القديمة.

قالها  بقلب مفعم بالنور والبصيرة متآملاً كآلة الزمن ، كيف كانت كيمت ليكون المعين والرافد الرئيسي لأمير الرواية العربية في إعداد نفسه للمرحلة التاريخية التي تمت عبر القراءة المتبحرة لتاريخ مصر القديم منتجًا أعماله التاريخية "عبث الأقدار 1939 ، رادوبيس 1943 ، كفاح طيبة 1944".

برهن لنا الكتاب على المفُجر الأول لأمير الرواية العربية ، واجدًا من يحتوي مشروعه الأول كمترجم وهو المفكر الكبير سلامة موسى العاشق لتراب الوطن ورحيق التاريخ وأنفاس الأجداد العظام مرسخًا لمبدأ الهوية الأساسية لمصر ، الذي إنبثق مع بزوغ شمس ثورة 1919 مؤسِسة تاريخ مصر الحديث.

إذًا أضاف محفوظ لما دشنه توفيق الحكيم ، عبر إستعادة الروح المفقودة مجددًا من إلهام مصر القديمة في روايته الخالدة "عودة الروح" التي كتبها في العام 1927 ونشرها في العام 1933 ، ليسير التلميذ على نهج الأستاذ عبر النقل والترجمة مؤمنًا بأن لا سبيل للنهوض في أوقاتنا الحالية إلا بالإستفادة من تجارب الأقدمين.

أثبت محفوظ صحة ما بدأه الحكيم وما أضافه بعد ذلك في ثلاثيته الفرعونية ، مُسقطًا التاريخ على واقعنا المعاصر حتى نعرف كيف إجتاز الأجداد محنهم ، في ملاحم جمعت بين الأسطورية والواقعية العتيقة باعثًا لأبناء اليوم رسائل فورية بأريج الأدب من سير المحلقين في السماء ، كي لا نضل الطريق المرجو بإنقاذ الوطن من براثن الإمبريالية العالمية على مر العصور.


تعليقات