كيف نوفق بين "لن يدخل أحد الجنة بعمله إلا بفضل الله ورحمته"، و"ادخلو الجنة بما كنتم تعملون"
- الأربعاء 27 نوفمبر 2024
تعبيرية
قال الباحث في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، الدكتور محمود عبد الله نجا، استاذ بكلية الطب جامعة المنصورة، إنه علميا أجساد الكائنات الحية تتغير شكلياً، وتركيبياً بمرور الزمن، فهناك النمو من نطفة لا تكاد تذكر، وهناك تغير شكل العضو أثناء أداء وظيفته، مثل القلب الذي ينقبض وينبسط في دورة زمنية معلومة، وهناك تفاعلات كيميائية بداخل الخلايا تختلف من وقت لآخر.
وعلمياً جميع التغيرات والتعديلات التي تحدث في كل خلية من خلايا الكائن الحي مرتبطة بجينات الحمض النووي، فهذه الجينات لا تنشط وتعمل كلها في نفس الوقت، ولكن تنشط بترتيب وتتابع معين عندما يحتاجها جسد الكائن الحي عند زمن معين، والنشاط الجيني محكوم بعدة عوامل منها بروتينات معينة تسمى منظمات النسخ transcription regulators، وهي عملية شديدة التعقيد تحدث بداخل كل خلية من خلايا الجسم.
وأكمل : أن هذا يعني أن جسد الكائن الحي عند زمن
معين ليس هو نفسه بالكامل عند زمن آخر، وهذا ما جعلني أتساءل هل يصح وصف الكائنات الحية
بأنها رباعية الأبعاد، فتنطبق عليها نسبية أينشتاين التي وصفت النسيج الكوني بأنه رباعي
الأبعاد (الزمكان)، فلا يصح وصف شيء ما أو حدث ما في النسيج الكوني بدون تحديد زمن
الوصف كبعد رابع، موضحا أن هذا التغير الذي يحدث للجسد الحي مع الزمن، له عدة إشارات
في القرآن والسنة، ومن ذلك وصف تغير خلق الجنين بتغير الزمن في آية (يخلقكم في بطون
أمهاتكم خلقا من بعد خلق)، فأشار الله لتغير
خلقة الجنين (خلقا من بعد خلق) عبر الزمان، مع العلم بأن (من بعد) تصلح ظرف زمان، وأيضا
ظرف مكان، والتنكير في (خلقا من بعد خلق)، تجعل الخلق الأول غير الثاني غير الثالث....وهكذا،
فهناك انتاج مستمر للخلايا والانسجة والأعضاء، وتغير مستمر في صورة الجنين، فلا يشبه
آخر مراحله أولها، وصدق الله إذ يقول (ثم أنشأناه خلقاً آخر).
وتابع: وهناك اشارة أخرى لتغير الجسد مع الزمن في آية (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، ولأن تغير الجسد مع الزمن أمر عجيب تحار أمامه العقول، فقد نسبه الله لمشيئته، وعلمه وقدرته، فليس الأمر ناتج عشوائية كما تصوره لنا الداروتية، وإنما بفعل خالق عليم قادر مقتدر، إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، لافتا في الوثت نفسه إلى أنه من إعجاز القرآن أنه ربط صراحة بين خلق وتسوية وتعديل شكل الجنين بالصورة المركبة (الحمض النووي) للجنين، قال تعالى (الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك)، وسبق بينت أن الصورة المركبة للإنسان هي ما بداخل النطفة الأمشاج من عروق، فهي مجموع نطفتيّ الأبوين، وهذه الصورة المركبة هي التي تتحكم في الخلق والتسوية والتعديل خلقا من بعد خلق، وباقي الكائنات الحية أمم أمثالنا، فكل منها له صورته المميزة، فسبحان المصور الذي خلقها وبرأها وصورها على هذه الحالة دائمة التغير مع الزمن.
وأردف قائلا: إنه من إعجاز السنة، أن النبي صلى
الله عليه وسلم، أشار صراحة لأحداث معينة في الجنين في زمن معين، فهناك أحاديث جمع
الخلق في ٤٠ يوما، فيها النطفة والعلقة، والمضغة، وهناك حديث خلق وتصوير الجنين وتحديد
جنسه بعد ٤٢ ليلة، وحديث تركيب صورة الإنسان يوم السابع (فإذا كان يوم السابع جمعه
الله، ثم أحضره كل عرق له دون آدم: في أي صورة ما شاء ركبك).وأيضاً وصف الله تغير الجسد
بالنسبة للزمن في النبات في آية ( يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا)، فكل نبات له دورة
نمو خاصة به، فيبدأ الإنبات عند زمن معين، ثم يصفر عند زمن معين، ويصير حطام عند زمن
ثالث، مشيرا إلى أن جمع الله تغيرات جسد الانسان والنبات بالنسبة للزمن في قوله تعالى
(خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ
مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ
مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
وأشار إلى أن الموت نفسه جعله الله تغير في الجسد
مرتبط بزمن معين، قال تعالى (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون)،
فحتى الموت له تقدير (نحن قدرنا بينكم الموت)، (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم)،
وصدق الله فما من حي إلا وينتظره الموت عند نقطة معلومة على خط الزمن، وحتى دخول الجنة
جعله الله مرتبط بصورة الانسان عند زمن معين، قال رسول الله (يدخل أهل الجنة الجنة
جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة)، وهذا يعني أن لكل انسان صورة
معلومة بعمر ٣٣ سنة، وهذه الصورة محفوظة عند الله، برغم اختلافها من شخص لآخر، فسبحان
من هذا علمه.
ونوه إلى أن العقل يكاد يجن عندما يفكر في كيفية
تدبير أمر كل هذه المخلوقات على اختلاف أنواعها، وأعدادها، فكم هي عدد التغيرات التي
تمر بجسد كائن حي واحد عبر الزمن، وكم عددها في كل الكائنات الحية في الماضي والحاضر
والمستقبل، إنه شيء يفوق قدرات العقل، وصدق الله الذي نسب لتفسه تدبير أمور الخلائق
منذ نشأة الكون المنظور فقال (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)،
فهو سبحانه كان ومازال يدبر أمر الخلائق منذ خلق إلى أن يرث الأرض ومن عليها، ولاحظوا
أن الفعل (يدبر) مضارع جاء في سياق الفعل الماضي (خلق)، وأهل اللغة يقولون اذا جاء
المضارع في سياق الماضي فإنه يشير إلى بداية الشيء في الماضي، ويتسع ليشمل الحاضر والمستقبل،
فهذا الكون بما فيه قائم بتدبير الله المستمر، فكل يوم هو في شأن، وتدابيره لخلقه نعمة
قل من يحصيها، وقل من يشكرها (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، فمن الذي يقدر على احصاء
تغيرات أجساد الكائنات الحية مع الزمن؟.
وختم قائلا: إن هذا الفهم يجرنا لفهم سعة علم الله،
فعلمه لا يتوقف عند معرفة المخلوقات بشكل سطحي، وإنما يمتد لمعرفة كافة تغيراتها وأحوالها
لحظة بلحظة، قال تعالى (الله يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد)، فبالله
عليكم كم أنثى من إناث الحيوانات، والإنسان يمكنها الحمل، وكم أنثى عاشت على الأرض
في الماضي والحاضر والمستقبل، وكم حمل تحمله الانثى في عمرها، ومن أي ذكر كان هذا الحمل،
بل من أي حيوان منوي، ومن أي بويضة، وهل تحمل بجنين واحد أم بتوائم، وهل يتم الحمل
(يزداد) أم يسقط (تغيض)، وهل تتم أعضاءه أم تزيد وتنقص، وكيف هو حجمه، وشكله، وصفاته،
وما هي مراحل الحمل في جنين كل أنثى من إناث الكائنات الحية بالنسبة للزمن، إنها علوم
لا يقدر عليها إلا خالق عليم وصف نفسه بأحسن وأجمل وصف فقال (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ
لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ
مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ
وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، فكيف هو علم من يحصي أوراق الأشجار المتساقطة،
وما هو حجم هذا الكتاب المبين الذي يحوي كل هذه العلوم التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة
الا ولها احصاء خاص عند الله.