هل الغرب صاحب السبق في وضع مناهج البحث العلمي.. وعاش المسلمون عالة؟

  • أحمد نصار
  • السبت 07 سبتمبر 2024, 3:53 مساءً
  • 44
تعبيرية

تعبيرية

 قال الدكتور عبد الرحيم خير الله الشريف، عميد كلية الشريعة جامعة الزرقاء، إن هناك شبهة تتردد من حين لآخر بأن الغرب هو صاحب السبق في مناهم البحث العلمي، وأن العرب طوال تاريخهم عالة على الغرب، لافتا إلى أن هناك رسالة الماجستير للدكتور أحمد إدريس الطعان توصلت إلى أن التجربة في الأمور الخاضعة للتجربة فطرة أصلية في النفس الإنسانية ، فالإنسان يلجأ إليها بشكل تلقائي إذا أمكنه ذلك ليتأكد من صحة أحكامه ، أو ليختبر بعض القضايا ، وربما يفعل ذلك دون الاعتماد على قـواعد معينة لذلك ، ولذلك يقـول كلود برنارد: ” إنني أعتقد أن كبار المجربين قد ظهروا قبل أن توجد القواعد العـامة لفن التجريب ، ومن ثم يبدو لي أنه لا يحق لأحد أن يقول في حديثه عن بيكون إنه اخترع المنهج التجريبي ، ذلك المنهج الذي استخدمه جاليلو  وتورشيلي على نحو جدير بالإعجاب عجز عنه بيكون ”

وأشار إلى ما قاله الدكتور محمود قاسم بأن الباحث قد يهتدي إلى قواعد التجريب أثناء بحوثه ومحاولاته الكشف والبحث ، فربما صنف هذه القواعد ليستفيد منها غيره ، وربما يترك مهمة تصنيفها لغيره ، ومن هنا يبدو لنا خطأ الفكرة المنتشرة على أنها حقيقة لا مراء فيها ، وتتردد كثيراً على الألسنة والأقلام وهي أن المنهج التجريبي ولد ونضج في الغرب على يد البيكونين ” روجر وفرنسيس ” وجون استيوارت مل ، مشيرا إلى أن الحقيقة أن هنالك علماء وباحثين غربييين منصفين أكدوا أن العرب والمسلمين قدموا للإنسانية حضارة باسقة في كافة المجالات التجريبية والنظرية ، وأنهم كانوا سباقين إلى ميادين التجربة والملاحظة اللتين تسلح الغرب بهما  فيما بعد ونهض نهضته المشهودة .

ونوه إلى ما قالته زيغريد هونكه” إن الإغريق تقيدوا دائماً بسيطرة الآراء النظرية ، ولم يبدأ البحث العلمي القائم على الملاحظة والتجربة إلا عند العرب” (4). وتقول : ” لم يكن مستوى روجر بيكون العلمي في الكيمياء أرفع من معاصريه ألا أنه رأى في التجربة التي أخذها عن العرب السبيل الحقيقي للوصول إلى نتائج حاسمة في العلوم الطبيعية وخاصة في الكيمياء ، وهكذا كان روجر علماً متوهجـاً سطع في سماء القرون الوسطى المظلمة وفي حناياه روح الشاعر الأندلسي ابن الخطيب الذي قال : مبـدئيـاً يجب أن يكـون كـل برهـان متـوارث قـابلاً للتعـديل إذا مـا اتضـح لحواسنا عكسه” وهو ما يجعل فون كريمر أن يعترف بدور العرب في حقل المعرفـة التجريبية ، وإن كان هذا الإنصاف منه مقدمة لما يريد أن يصل إليه من إقناعٍ للقارئ بتفوق الجنس الآراي واليوناني على غيره يقول : ” إن أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو لنا جلياً في حقل المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم ، فإنهم كانوا يُبدون نشاطاً واجتهاداً عجيبين حين يُلاحظون ويمحصون ، وحين يَجمعون ويُرتبون ما تعلموه من التجربة ، أو أخذوه من الرواية والتقليد ، ولذلك فإن أسلوبهم في البحث أكبر ما يكون تأثيراً عندما يكون الأمر في نطاق الرواية والوصف”، ثم إن الرجل يعود ليتبزّ المسلمين حقهم في حقل المعرفة النظرية ، وينسب كل ما عندهم لليونان ، ولعل هذه غايته التي يريد أن يصل إليها ، وأراد بمقدماته تلك أن يكسب ثقة القارئ ، عندما يخيل إليه أنه منصفٌ لا يهمه إلا الوصول إلى الحقيقة العلمية ، وهذا شأن المستشرقين جلهم يدسون السم في العسل .

وتابع: كما أن الدكتور فرانتز روزنتال، راح يؤكد أن المسلمين كانوا ينظرون إلى التجربة والملاحظة على أنها ذات قيمة فريدة في البحث العلمي ، وأننا نجد أمثلة هائلة لذلك في الحضارة الإسلامية في حقول المعرفة المتنوعة ، وينقل هذه العبارة عن ابن أبي أصيبعة عن الرازي (7): ” متى كان اقتصـار الطبيب على التجـارب دون القيـاس وقـراءة الكتب خُـذل” مما يدل على أن التجربة كانت عند الأطباء منتشرة بشكل كبير ، وأنه كان يحمد للطبيب أن يضم إلى تجاربه العلمية القراءة النظرية والقياس العقلي .

ووأردف قائلا: نضرب الآن بعض الأمثلة من الفكر الإسلامي نستدل بها على اعتماد المسلمين بشكل كبير على التجربة والملاحظة ، فلنبدأ بالحسن ابن الهيثـم حيث تقول زيغريد هونكه : لقد علّم إقليدس وبطليموس بأن العين المجردة ترسل أشعةً إلى الأشياء التي تريد رؤيتها فجاء ابن الهيثم وأعلن أن هذا الادعاء خاطئ لأنه ليس هناك أشعةً تنطلق من العين ليتحقق النظر بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعة على العين فتبصرها هذه بواسطة عدستها.

وتابع: كما يرى الأستاذ مصطفى نظيف إلى أن ابن الهيثم أخذ بالاستقراء قبل بيكون ، ويعتبره من أبرز علماء الطبيعة . ويذهب إلى أن أثر ابن الهيثم في علم الضوء لا يقل عن أثر نيوتن في علم الميكانيكا، ونستطيع أن نتبين قواعد المنهج عند ابن الهيثم وأصوله من خلال هذا النص الذي ينقله مصطفى نظيف عن ابن الهيثم يقول : ” ونبتدئ في البحث باستقراء الموجـودات ، وتصفح أحوال المُبْصَرات ، وتمييز خواص الجزئيات ، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار ، وما هو مطرد لا يتغير ، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس ، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدرج والتدريب مع انتقاء المقدمات ، والتحفظ من الغلط في النتائج ، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل ، لا اتباع الهوى ، ونتحرى في سائر ما نجيزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء ” .

 وأوضح أن أهم ما يميز ابن الهيثم أيضاً : أنه كان يشرح الجهاز ، ويبين وظيفة أجزائه المختلفة ، ويستعمل أجهزة مبتكرة لشرح الانعكاس والانعطاف ، وتدل تجاربه وحساباته أنه استطاع أن يجمع بين مقدرته الرياضية ، وكفايته العلمية الممتازة ، يدل على ذلك صنعه للأجهزة ، واستعمالها في أغراضٍ مختلفة    

وأشار إلى لعلمـاء المسلمين كتب في عـلم مراكز الأثقال ، وهو علم يتعرف منه كيفية استخراج ثقل الجسم المحمول .  ولهم فضل كبير في علم السوائل وما يتصل به من ظواهر تتعلق بضغط السوائل وتوازنها ، مشيرا إلى أن للخازن كتاب ” ميزان الحكمة ” كتبه سنة 1137 م  وفيه وصف دقيق مفصل للموازين التي كان يستخدمها علماء المسلمين في تجاربهم ، وفيه أيضاً وصف لميزان استخدم في وزن الأجسام بالهواء والماء . ويتضمن هذا الكتاب أيضاً بحثاً في الضغط الجوي ، وكان بذلك أسبق من تورشيلي ، ويحتوي كذلك على المبدأ القائل بأن الهواء كالماء يحدث ضغطاً من أسفل إلى أعلى على أي جسم مغمور فيه ، ومن هذا استُنتج أن وزن الجسم في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي ، واستفاد الأوربيون بعده من اكتشافاته ، وبنوا عليها بعض الاختراعات كالبارو متر ومفرغات الهواء ” (18). كما تضمن هذا الكتاب بحثاً في الجاذبية مبيناً أن هناك علاقة بين سرعة الجسم والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه ، وقال الخازن في كتابه هذا بأن قوى التثاقل تتجه دائماً إلى مركز الأرض.

وتابع أن  الخازن علماء آخرون مثل ثابت بن قرة ، وموسى بن شاكر وغيرهما ، حيث قالوا بالجاذبية وعرفوا شيئاً عنها ، ومن أشهرهم ، محمد بن عمر الرازي حيث قال :  ” إننا إذا رمينا المدرة إلى فوق ، فإنها ترجع إلى أسفل ، فعلمنا أن فيها قوة تقتضي الحصـول إلى أسفل ، حتى إنه لما رميناها إلى فوق أعادتها تلك القوة إلى السفل .” وقد تساءل الدكتور مصطفى حلمي : أليس في هذا تمهيداً لفكرة الجاذبية؟ بينما يرى الأستاذ العقاد أن البيروني كان له الفضل في ذلك حيث اعترض على رأي الإغريق القائـل بأن الأجسام الثقيلة مجذوبة إلى أصلها في السماء ، ورجح أن الأجسام كلها مجذوبة إلى مركز الأرض، وقد مهد بآرائه هذه السبيل لنيوتن لكشف قانون الجاذبية ، كما أن البيروني هو الذي اكتشف دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وليس كوبر نيكوس أو غيره كما يشاع

ونوه إلى أنه في علم الطب يعد أبو بكر محمد الرازي 844 –926 م  أول الأطباء المسلمين الكبار وقد اعتبره جميـع المؤرخين واحداً من أعظم الأطباء في جميع العصور ، ومن أعظم مشخصي الأمراض المبدعين ، حيث اعتبرت مقالته عن الجدري والحصبة أول عمل محكم في الأمراض المعدية، معبرة عن قدرة فذة في الملاحظة والتحليل التمريضي ، واشتهرت في أوربا ، حيث طبعت أربعين مرة باللغة الإنجليزية منذ سنة 1489 إلى 1866 . م كما أن الرازي يعتبره الدكتور سارتون أول الأطباء الكيماويين إلى جانب ابتكاراته في جراحة العيون والولادة وأمراض النساء ، وكذلك كان أول من صنف مقالات في أمراض النساء ، وقد رمدت عيناه ذات مرة من كثرة اشتغاله بالتجارب ، فذهب للعلاج عند أحد الأطباء فطلب منه خمسمائة دينار فقال الرازي ” هذا هو الكيمياء حقيقة ” ثم مال إلى تعلم الكيمياء في سن مبكرة من حياته وألف فيها اثني عشر كتاباً ، وآكد شئ لدى الرازي هو ما اجتمع على صحته الأطباء ، وشهد له القياس ، وعضدته التجربة ، ولم يكن يعبأ إلا بالعلم الذي أثبتت التجربة جدواه ، ومن سمات منهجه أنه كان يفضل النتائج العلمية القائمة على أساس تجارب القرون لا تجارب الفرد الواحد .                        

وأشار إلى كثر اشتغال النصارى بالطب في ظل الدولة الإسلامية ونبغوا فيه ، ويرجع العقاد ذلك إلى تحريم الكنيسة الغربية آنذاك للاشتغال بالطب ، لأن المرض عقاب من الله تعالى ، لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن استحقه ، وظل الطب محجوراً عليه إلى ما بعد انقضاء العهد المسمى بعهد الإيمان عند استهلال القرن الثاني عشر للميلاد وهو إبان الحضارة الأندلسية، حيث كانت المستشفيـات منتشرة في أنحـاء الدولة الإسلامية بعد القرن الثالث للهجرة ، واتبعت طريقة عملية للتحقق من وجود الهواء وصلاح الموقع لبنائها تغني عن الأساليب العلمية التي اتبعت في العصر الحاضر بعد كشف الجراثيم ، حيث تتفق معها في أصلها التجريبي فكانوا كما يقول العقاد :  يعلقون اللحوم في مواطن مختلفة من المدينة في وقت واحد ، فأيها أسرع إليه العفن اجتنبوا مكانه ، واختاروا المكان الذي تتأخر فيه عوارض الفساد .

وختم قائلا: إن النهضة الأوربية الحديثة إنما قامت على جهود جبارة لعلماء المسلمين نقلت إلى الغرب ، وقد أكد ذلك الدكتور فؤاد سزكين ، إذ يشير إلى أنه كانت في القرن الرابع عشر مدارس للترجمة في طرابزون على الساحل الشرقي للبحر الأسود وفي استنبول أيضاً ، كان أصحاب هذه المدارس يترجمون أحدث الكتب المؤلفة في العالم الإسلامي إلى اليونانية بدافع من غيرتهم الدينية لمساعدة إخوانهـم في أوربا ، لذلك فهو يقول : ” وكلما أمعن الإنسان النظر في دراسة المصادر الأصلية للنهضة الأوربية ازداد تصوره أن هذه النهضة المزعومة أشبه ما تكون بالولد نُسب إلى غير أبيه الحقيقي".

تعليقات