لمسة بيانية في قول الله "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ"

  • أحمد نصار
  • الثلاثاء 13 أغسطس 2024, 01:54 صباحا
  • 356
الآية الكريمة

الآية الكريمة

 قال الدكتور حسام النعيمي، إن هناك لمسة بيانية عظيمة في قوله تعالى في سورة الشورى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) ولماذا لم يقل (من عباده)؟ الإجابة تكمن في القبول والذي يعي أخذ الشيء برضى، أنت تعطي إنساناً شيئاً ما فإذا قبِله معناه أخذه وهو راضٍ، هذا الشيء الطبيعي.

وتابع: أن التوبة هي الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. كلُ إنسان معرّض للخطأ وخير الخطائين التوابون، يعود بسرعة. فالتوبة هي الكفّ عن المخالفة والعودة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى لا أن يكون منغمساً في المخالفة ويقول تبت يا رب.

وأوضح: أن استعمال (عن) بدل (من): على سَنَن منهجنا في هذا الباب أني عدت إلى جميع الآيات التي فيها كلمة قبِل مع التوبة في القرآن الكريم فوجدت ملاحظة أن كلمة (عن) تستعمل حينما يكون الكلام هو عودة إلى الله سبحانه وتعالى والمتكلِم المباشر هو الله سبحانه وتعالى أو هو معلوم عن طريق الغيبة لما يقول (هو) يعني الله سبحانه وتعالى عبّر عنها بصيغة الغيبة لرفع الشأن والمقام من حيث اللغة. المواطن الأخرى جميعاً ليس فيها هذه الظاهرة.

وأكمل: أذكِّر في الفرق بين (عن الشيء) و(من الشيء)، ما الفرق بين (يقبل التوبة عن عباده) و(يقبل التوبة من عباده)؟ ثم نعود إلى الآيات ونقف عندها حتى تتضح الصورة ويتبين لنا كيف أن هذا الكتاب ليس من عند بشر، ضاربا مثال: عندما نقول: “فلان كان يمشي بسيارته وخرج من الطريق السريع” معناه وجد منفذاً وخرج وهذا المنفذ متصل بالطريق السريع. لكن لو قيل لك: “فلان بسيارته خرج عن الطريق السريع” معناه انحرف كأنما انقلبت سيارته. هذه الصورة الآن نحن نفهمها بعد ألف عام فكيف كان العربي يفهم الفرق بين من وعن؟.(عن) لمجاوزة الشيء، (من) لابتداء الغاية كأنه ابتدأت غايته من الطريق.

وأردف قائلا: مع (من) كأنه تبقى الصِلة هناك شيء ولو صلة متخيلة أما (عن) ففيها انقطاع (يضلون عن سبيل الله) أي لا تبقى لهم صلة. فما فائدة هذه القطيعة؟ القطيعة مقصودة مرادة. التوبة ترتقي إلى الله سبحانه وتعالى ولو قيل في غير القرآن (يقبل التوبة من عباده) كأن الإثم الذي تاب عنه يبقى متصلاً به. وهذه التوبة يتخيل الإنسان صورة مادية للصلة بالله سبحانه وتعالى والصلة المادية بالله عز وجل منهيٌ عنها لا ينبغي أن تتخيل ذلك – ليس كمثله شيء ، كل ما خطر ببالك فالله عز وجل بخلاف ذلك-.

وأضاف: لما تقول (من عباده) كأنه يبقى ذلك الخيط لكن هذا ينبغي أن يُقطع كأن هذا الإثم انقطع عنك تماماً والتوبة ترتفع إلى الله سبحانه وتعالى أنت تبت وهي ارتفعت ولم تعد موصولة بك ففيها صورة انقطاع من الإثم وانفصال، بينما (من عباده) كأنه بقي الربط بالعباد، هذه الصورة المتخيلة. علماؤنا يقولون (عن عباده) يعني (من عباده) ويقولون الحروف يستعمل بعضها مكان بعض. صحيح يستعمل بعضها مكان بعض لكن هناك غاية. لما يقول تعالى على لسان فرعون (لأصلبنكم في جذوع النخل) يقولون لا يوجد صلبٌ (في) وإنما الصلب (على) بمعنى أشدكم وأربطكم على جذوع النخل ويقولون (في) هنا بمعنى (على). كان يمكن أن يقال (على جذوع النخل) – حتى في الشعر العربي يقولون استعمل الشاعر حرفاً مكان حرف للضرورة لكن الحقيقة أن الشاعر متمكن –.

واستطرد قائلا: إذن (عن عباده): مقصودة. وكان يمكن أن يقول (من عباده) لكن المعنى يختلف والصورة الذهنية ستختلف عند ذلك، وكذلك (ويعفو عن السيئات): العفو فيه معنى الصفح وفيه معنى المحو والعرب تقول عفا عنه أي صفح عنه كأنه مسح لأن أصل العفو هو المحو ويقال: (عفت الريح الآثار أي محت). يمكن أن يقال: ويعفو السيئات أي يمسحها ويمكن أن يقول : ويعفو سيئات أو ويعفو سيئاتهم أو ويعفو عن سيئاتهم فلماذا جاءت بالألف واللام (السيئات) ولم تأت نكرة ولا جاءت مضافة؟ ولا جاءت من غير (عن)؟

يقال : عفا عن أخيه وعفا عن ذنبه. العرب تستعمل الاثنين معاً. عفا عن أخيه بمعنى صفح، وعفا عن ذنبه أيضاً بمعنى محى ذنبه ويبقى فكرة الانفصال هذه، عفا عن السيئة بمعنى فصل السيئة عنه أي أبعدها عنه ومحاها.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ): الفعل (قبِل) استعمل باستعمالات متعددة في القرآن الكريم بهذه الصور بعده حرف الجرّ : إما تأتي اللام جاءت مرة واحدة (لا يقبل له) بمعنى قبل له وقبل منه، وقبل عنه وقبِله بدون حرف جر. والفعل متعدٍّ يقال قبل الشيء وقبل لك الشيء وقبل منك وقبل عنك. في القرآن استعمل في موضع (قبل له) واللام للملك، ومواضع أخرى متعددة استعمل (منه) وثلاثة مواضع استعمل (عنه) هذه المواضع الثلاثة التي استعمل (عن) كلها يجمعها أن الكلام فيها من الله تعالى عن نفسه إما بصيغة الغائب أو المتكلم أما المواطن الأخرى تكون بالبناء للمجهول أو على لسان أحد من عباده.

 

تعليقات