باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
الفتاة الثائرة
فوجئ قراء الصحافة بمقالات نارية عنيفة، ترشق حجارتها على الحكومة المصرية، وتطلق رصاصها على وزرائها، وتحارب ولا تسالم، وتهاجم ولا تتوقف.
واندهش القراء حين طالعوا إمضاء كاتب المقال:
"منيرة ثابت"، فظنوا للوهلة الأولى أنه اسم مستعار، لأنهم لم يعهدوا
ذلك، ولكنهم سرعان ما فوجئوا للمرة الثانية أنها بالفعل امرأة حقيقية من لحم ودم،
وشابة تدرس بمدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة.
كانت منيرة ثابت
آنسة جميلة ورشيقة، ساحرة العينين، فاحمة الشعر، وفي الوقت ذاته شرسة مندفعة عنيفة
اللهجة، وظيفتها الأولى في الحياة أن تهاجم الرجال والديكتاتورية معا.
لم يك معروفاً في ذلك الوقت أن تجرؤ امرأة على
مهاجمة رئيس الوزراء، لأن المرأة المصرية معروفة بشدة الخفر والحياء، أما هي
-صاحبة مدرسة الحقوق الفرنسية- فكانت على العكس تماما، إن سقط السيف من يدها،
استعملت أسنانها، بل وأظافرها!
وكان زعيم
الثورة آنذاك -سعد زغلول- معجبا بجرأتها وحماستها، يشجعها على صمودها وإصرارها.
وفي سنة ١٩٢٤
جرت أول انتخابات برلمانية، حصل فيها سعد زغلول على الأغلبية الساحقة، وشكل أول
وزارة شعبية، وبدلا من أن تهلل منيرة لسعد وتهنئه بالنصر، جاءته معترضة بأن وزارته
لا تمثل الشعب ولا تعبر عنه! فلما سألها عن السبب، قالت له: إن وزارتك ليس فيها
امرأة! وعلى السجية ضحك سعد زغلول قائلا: "جميع الوزراء متزوجون، وكل وزير
منهم ينوب عن زوجته"! وكأنه أمر بدهي.. ثم أردف: وأخشى إذا أثرنا حكاية منح
المرأة حق الانتخاب الآن أن يحدث انقسام في الأمة، فلا تزال نسبة كبيرة من السكان
لا توافق على اشتراك النساء في السياسة، ولا أريد انقساماً في الأمة أثناء المعركة
مع الأنجليز، وعندما يخرج آخر جندي أجنبي من مصر أعدك بأن أنضوى تحت زعامتك وأطالب
للمرأة المصرية بحق الانتخاب!
لم تقنع منيرة
بذلك الرد، وقالت: "إن نساء الأمة لم يقتنعن برأي زعيم الأمة بتأجيل منح
المرأة حقوقها إلى أن يخرج الإنجليز". وكأن مشاكل نساء الأمة قد حصرت في هضم
حقهن في الانتخاب السياسي! وكأن فئة النسويات الهائجات آنذاك كن يمثلن جميع
المصريات، وكأن منيرة ثابت كانت رسولا عن نساء الأمة! ثم ما كان من سعد إلا أن أصر
على تأجيل مطلبها حتى يهيئ الشعب رجالا ونساء لذلك. لكنه أشار عليها بأن تكتب
رأيها في الصحافة لتمهيد الرأي العام. وتلك هي الوسيلة المثلى لتغيير مفاهيم الناس
"الإعلام".
أصدر سعد أمره
بصفته وزيرًا للداخلية بإعطاء الآنسة منيرة ثابت ترخيصاً بإصدار مجلة أسبوعية
سياسية انتقادية أسمتها "الأمل"، وعلى الفور كانت الرشقات الأولى من
العدد الأول من المجلة الأسبوعية من نصيب الإنجليز ومندوبهم السامي، وقصر الملك
والحكومة المتشكلة الجديدة، ثم أتت الأعداد الأخرى مهيجة للأزهر والعلماء
والمحافظين بحديث صارخ وجريء عن المساواة بين المرأة والرجل في كل شيء حتى في
المواريث (جدير بالذكر أن ما لم يكن مقبولا قبل مائة عام أضحى اليوم في تونس أمرا
لا يمكن التراجع عنه)! والمهم أن مجلة "الأمل" أصبحت على سعة انتشارها
المجلة الأولى لثوريات النسويات وسعد زغلول وحزبه في آن واحد!
لم تكتف منيرة
الشابة بهذا، فأصدرت جريدة يومية باسم "لسبوار" تكتب باللغة الفرنسية،
تصدرت هي الأخرى الصحف اليومية الأجنبية!
قامت قيامة
الملك فؤاد ودار المندوب السامي البريطاني والحكومة على منيرة ثابت، وانهالت عليها
التحقيقات والمصادرات، والصحف المناوئة، وكلام علماء الأزهر، والمرأة ثابتة مكانها
على ثورتها ضد الأعراف والدين!
غير أن ما عجز
عنه الإنجليز والحكومة والشيوخ والعلماء والأعراف والتقاليد، استطاعه شيء آخر لم
يكن على البال ولا الحسبان.. ألا وهو الحب.. غريزة المرأة وفطرتها!
كانت منيرة
تلتقي يومياً في دار البلاغ بعبد القادر حمزة باشا، الصحفي الأول في مصر بشهادة
سعد زغلول، والذي أعجب بشجاعة منيرة وحماسها وصمودها، وتطور الأمر كما العادة.. من
إعجاب إلى حب ووله واشتياق!
وجدت منيرة في
عبد القادر حمزة باشا فتى أحلامها! صحيح أنه كان يكبرها بأكثر من عشرين عاماً،
"وهو الأمر الذي يخالف المزاج النسوي بشكل عام" إلا أنه بالنسبة لمنيرة
-الفتاة العاشقة- لم يكن شيئًا ذا بال، وكانت تراه شابًّا أكثر من كل الشبان!
بدأت قصة الحب
بنظرات ثم فاحت رائحته حتى تسربت إلى الصحف والأخبار، والتي رأت فيها غنيمة باردة
للتشفي من المرأة الثائرة وعشيقها!
وقرأ الزعيم سعد
زغلول المشهد من بعيد، فاستدعى عبد القادر حمزة وسأله: هل صحيح أنك تحب الآنسة
منيرة ثابت؟ فاعترف على الفور بهذا الغرام الجارف! فقال له سعد: إما أن تتزوجها أو
أن تتركها! وهنا برزت المشكلة الكبرى!
لقد آن أوان أكل
صنم العجوة.. طلبت منيرة من زوجها أن يطلق زوجته الأولى، لأنها بحكم مبادئها ضد
تعدد الزوجات، فكيف تقبل وهي المرأة الثورية النسوية المتعلمة (ضرة)؟ وكيف ستنظر
في وجه صديقاتها بعد ذلك، بل وفي الصحافة، وفي عيون كل الناس، وهي نفسها زعيمة
المطالبة بمنع تعدد الزوجات، والاكتفاء بزوجة واحدة؟ غير أن الحب جاهل، والحب
أعمى، والهوى غلاب!
رفض عبد القادر
حمزة -كرجل أصيل- أن يطلق زوجته الأولى التي شاركته كفاحه وأم أولاده وبناته، فدب
النزاع بينهما من أول يوم؛ واحتكما إلى سعد زغلول، ولكن ترى من سينتصر؟ حكم سعد
بأن يحتفظ عبد القادر بأم أولاده؛ إذ ما ذنب المسكينة الأولى من عقل تلك النسوية
الخرف؟ وهنا تهاوت منيرة ساقطة، وخاضعة لسلطان الحب، ومتنازلة عن مبادئها!
عاد عبد القادر
حمزة باشا يشترط على زوجته الكاتبة الثائرة أن تطلق الصحافة، وتغلق المجلة
الأسبوعية، والجريدة اليومية، وتعيش زوجة في البيت.. زوجة له وفقط، لا تزور، ولا
تزار، ولا تكتب مقالات ولا تشترك في أي عمل سياسي. صحيح أنه كان يعجبه ذلك قبل هذا
وهو رجل متحرر مثلها؛ لأنها كانت مشاعًا لكل الناس وتخدم قضيته، وأما الآن فلا؛
ولابد للفطرة أن تنتصر.
ثارت الكاتبة
الثائرة، وهاجت بين يديه وماجت، كالذبيح قبل أن يقع على الأرض، لكن دون جدوى..
فلقد أخضعها سلطان الحب ثانية، واستسلمت له بلا قيد أو شرط، وأوصد بيديه أبواب
مجلة وجريدة كانا لها كالماء والهواء، وأطفا ثورتها العارمة، وأصبحت "ست بيت"!
لقد اختفت
النجمة "منيرة ثابت" من الحياة الصحفية، والنسائية، والسياسية، ومن كل
معارك الرجال، لتصبح في الأخير "ست البيت منيرة"! ولكن هل تدرك قيمة هذا
الشرف؟
بعد سنوات قليلة
انطفأ الحب السينمائي، وبقيت روح الزواج، واختفت الهالة الكبيرة التي فتنت عبد
القادر بمنيرة، وتجردت من كل الأضواء الساطعة، وانطفأ بريقها، وهدأت ضوضاؤها،
وأصبحت زوجة عادية بعدما خضعت لمعايير الزواج، وأحست هي بذلك فانكفأت على نفسها
بضع سنوات.
بالرغم من كل
ذلك كان هناك خيط لازال يربط منيرة بالماضي، الجمعيات النسائية التي كانت مشتركة
فيها، رفيقاتها من النسويات اللائي كن يوسوسن لها، وينفخن كل يوم في كيرها،
ويحضضنها على ملازمة الطريق، وسرعان ما أثر مفعولهن السحري، وانفصلت عن زوجها،
وأصدرت مجلة الأمل بعد سنوات، ولكن المرة كانت مجلة صغيرة متواضعة.
وهبت منيرة بعد
طلاقها تنافح عن نسويتها من جديد طارقة كل الأبواب، وذهبت إلى اللواء محمد نجيب
قائد الثورة المصرية آنذاك، لتقنعه بحق المرأة في الانتخاب، ولكنه رد بأن الوقت
غير مناسب، ولما تولى الحكم عبد الناصر وجدت الفرصة أحسن ما يكون وقد كان، ومنح
عبد الناصر المرأة المصرية حق الانتخاب والترشيح لعضوية مجلس الأمة، وتقدمت منيرة
ورشحت نفسها عام 1957م، وتصورت أن الشعب سيُقبل على انتخابها، ويستعيد أمجادها.
وهنا كانت
المفاجأة.. لقد مرت منيرة في دائرتها الانتخابية، ولم يعرفها أحد! لم تكن تدرك أن
الفتيات الثائرات مثلها تزوجن وكبرن وأصبحن أمهات مشغولات بمتاعب الزواج وتربية
الأطفال، ولم يعدن يبحثن عن انتصارات مزيفة ومعارك وهمية!
لقد سقطت
الزعيمة في الانتخابات ولم تحصل في دائرتها إلا على بضعة أصوات!
35 عاما تغيرت فيها العقول والأجيال،
وتقلبت فيها الأحداث والزمان، ولكن الشيء الثابت الوحيد أن منيرة الشابة الجميلة
أصبحت عجوزًا متهدمة، واختفى شعرها الأسود الجميل وغزا مكانه الأبيض المشيب، وفقدت
عيناها سحرها الجذاب بعدما أصابهما المرض، وأرسلت في الأفاق تبحث عن عمل بأجر
لإنقاذها من ذلك المرض الخطير بعدما صارت مدينة ولا تملك غير عفشها القديم!
ولما وصل خبرها
عبد الناصر أمر بسفرها إلى إسبانيا للعلاج على نفقة الدولة، وبعد رحلة من التشافي
والعلاج، استيقظت ذات مرت من نومها فوجدت الدنيا ظلاما في ظلام، ولم تنفعها عيناها
الجميلتان السوداوان، ولم تنفعها جمعيات النساء، ووجدت نفسها وحيدة بلا زوج أو
ولد، بل وبلا شعب أو وطن! وكان عزائها أنها ناضلت من أجل حق المرأة في الترشح
والانتخاب!