رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

د. عباس شومان يكتب: التفكير المتحرر عن قواعده شر محض

  • جداريات Jedariiat
  • الخميس 30 مايو 2024, 8:35 مساءً
  • 534
د عباس شومان

د عباس شومان

استقرت القواعد العلميَّة الضابطة للعلوم، وكان استقرارها نتيجة جهود علميَّة ضخمة استوعبت النصوص؛ درسًا وفحصًا، وقامت على منهج الاستقراء التام، وانطلقت من قواعد اللغة، ومقتضيات السياق، مع الأخذ في الاعتبار أسباب النزول، والمطلق والمقيد، وقطعي الدلالة وظني الدلالة... وغير ذلك من القواعد العلميَّة المنظمة للاستنباط، والضامنة لصحة النتائج... ولكن بدعوى التجديد وإطلاق حريَّة الفكر، وتلبية لمطالب بعض الفئات عالية الصوت، وغنية الجيوب، رأينا للأسف الشديد البعض  يذهبون بعيدًا بفكرهم العشوائي المتفلت من القواعد والضوابط، ومن هؤلاء من قد يعذر بجهله، فهؤلاء لا يتورعون عن المجاهرة بالتحرر من القيود والضوابط العلميَّة الضابطة للتفكير الديني، ولكن العجيب أن ينضم إليهم بعض من يُفْتَرَضُ فيهم أنهم تربوا على المناهج العلميَّة الصحيحة للتفكير، وعرفوا ضرورة الالتزام بقواعد متفق عليها بين علماء المسلمين قاطبة، لم يخترعوها من عند أنفسهم، بل دلتهم عليها نصوص قطعيَّة في كتاب الله والسنة المطهرة، وقواعد اللغة التي بها نزل القرآن ونطقت بها السنة، وهؤلاء الذين حصلوا على أعلى الدرجات العلميَّة في الدراسات القائمة على هذه القواعد والضوابط من خلال تخصصاتهم الشرعيَّة، ويقومون على تدريسها لطلابهم في الدراسات العليا، ويحاسبونهم على الالتزام بها في بحوثهم للماجستير والدكتواره، وما بعدهما من بحوث الترقي، من العجيب أن تراهم يتفلتون منها وكأنهم يرونها غير ملزمة لهم، فقد وصلوا بفكرهم إلى مرتبة فوق الالتزام بأية قواعد لغويَّة أو شرعيَّة!، وكأنَّ عقولهم أصبحت مصادر للتشريع، بل الأدهى والأمر أنهم يعطون هذا الحق لعامة الناس، فيزعمون أنَّ كلَّ إنسان حر في فهم النص، وأنه يحاسب على أساس فهمه له، وهذا منهج فاسد غاية الفساد؛ بل هو منهج ساقط لا يلتفت إليه، فهو معول هدم بتار للثوابت، فالناس يتفاوتون في قدرتهم على الفهم والتحصيل، ويتأثرون بدرجة كبيرة بأهوائهم وميولهم ومصالحهم الضيقة، فقديمًا فهم الأعرابي أنَّ العدل هو ما يحقق له مصلحة ولو كانت على حساب غيره، والظلم ما يسلب منه هذه المصلحة ولو كانت حقًّا لغيره، فقد سئل أحدهم عن العدل فقال : هو أن أغير على جاري لآخذ غنمه، فقيل له فما الظلم إذًا قال :أن يُغير علي جاري ليسترد غنمه! وعلى هذا المنهج الفاسد لا يحق لنا أن نعيب على هذا الأعرابي فهمه للعدل وللظلم فهما مقلوبًا نقل معنى كل واحد منهما للآخر! إذ هو -وفق منهجهم- حر في فهم النص، وسيحاسب على قناعاته.

وقد قلب أبو نواس قبل توبته الحرام حلالًا والحلال حرامًا، واستند على القرآن الكريم لتأكيد هذا الزعم العجيب، فحين قال له أحدهم : اترك الخمر. ردَّ على القائل سائلًا عن السبب، فقال له : لأنَّ الخمر حرام. فقال : من قال إنها حرام؟ قال : كتاب الله. فقال كتاب الله لم يقل هذا، بل قال إنَّ الصلاة هي المحرمة، ثم أنشد قائلًا:

دَعِ الْمَسَاجِدَ لِلْعُبَّادِ تَسْكُنْهَا   ***    وَطُفْ بِنَا حَوْلَ خَمَّارٍ لِيَسْقِينَا

مَا قَالَ رَبُّكَ وَيْلٌ لِلْأُلَى سَكِرُوا   ***   وَإِنَّمَا قَالَ وَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَا

وعلى هذا المنهج الفاسد ليس لنا أن نعيب عليه تحريم الصلاة وإباحة الخمر، لاسيما وهو يستشهد بنص قرآني وهو قوله تعالى :{ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} ،وقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ...} ،وعلى هذا المنهج الفاسد ينبغي عدم اللوم على  مَنْ فهم أنَّ الصلوات ثلاثة في اليوم فقط ،صلاة بالغداة، وأخرى بالعشي، وأخرى بالليل، وأنها تجوز بأي عدد من الركعات، فالنص يقول: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}، { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}.

وبعض الموتورين يقولون بذلك فعلًا! حيث إنهم لا يعتدون بالسنة! والآيتان ليس فيهما ذكر لخمس صلوات، وعلى هذا الزعم والمنهج الفاسد ليس لنا أن ننكر على من فهم أنَّ الصلاة تتحقق بإقامتها فهي المأمور بها: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، ويمكن أن يستدلوا على فهمهم هذا بأنَّ الآية فصلت بين الركوع والسجود بالزكاة ، فيكون الأمر بالركوع والسجود منفصلًا عن الصلاة ، وكأنه أمر بالركوع وحده والسجود وحده، وليس داخل الصلاة، ومعلوم أنَّ هيئة الركوع والسجود يمكن أن تتحققا من غير صلاة، ويمكن أن يبلغوا في تأكيد هذا الفهم الباطل فيستشهدوا بقوله – تعالى - { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، حيث اكتفت الآية بالأمر بإقامة الصلاة ولم تذكر شيئًا من أفعالها التي نؤديها بعد الإقامة!

وليس من حقنا أن نعيب على من فهم أنَّ الوضوء يكون بعد الدخول في الصلاة ؛لأنَّ الآية أوجبته عند القيام للصلاة :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ،ولم تقل قبل قيامكم للصلاة!

وليس من حقنا أن نعيب على شخص إذا قال :إنَّ الصلاة  المطلوبة هي الدعاء، فالصلاة في قواميس اللغة معناها الدعاء، ويمكن أن يستشهد على فهمه الباطل بالقرآن نفسه، ففيه قوله تعالى – { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ،وفيه قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }، وهي في الآيتين بمعنى الدعاء بلا نزاع بين المفسرين ولا يصح حملها على الصلاة ذات الركعات والسجدات، فإنها لا تجوز منا على الرسول، ولا تجوز منه على المزكِّين.

وليس من حقنا أن نعيب على من فهم  الآية السابقة بأنها تدل على أنَّ الزكاة رفعت بموته – صلى الله عليه وسلم – كما فهم المرتدون في عهد سيدنا أبي بكر  الصديق – رضي الله عنه – بل علينا أن نقبل فهمهم وأن نخطِّئ قتالهم والحكم بردتهم – حاش لله – وليس لنا على هذا المنهج التخريبي أن نعيب على من قال: إنَّ للرجل أن يتزوج من ثماني عشرة امرأة: حيث فهم قوله – تعالى - : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}.

وبهذا المنهج الفاسد قال بعضهم بعدم فساد الصوم بالتدخين فهو ليس طعامًا ولا شرابًا والآية تقول : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ...}،فالآية لم يرد فيها التدخين، وتطبيقًا لهذا المنهج المنفلت لا لوم على من ضرب والديه أو أحدهما؛ لأن القرآن الكريم لم ينه عن الضرب، وإنما نهى عن قول ( أفٍّ) فقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}! أرأيتم إلى أي حد يمكن أن يصل بنا هذا المذهب المنفلت عن القواعد واجتهادات سلفنا التفسيريَّة والفقهيَّة المنضبطة بالقواعد؟! فيا هؤلاء هل هذا هو ما تريدوننا أن نصل إليه، وهل يكون المنتشر في أذهان الناس وفهمهم بعد ذلك دينًا يمت لديننا بصلة؟

وقد يحتج هؤلاء بالمنهج الظاهري الذي كان يتوقف في تعامله مع النص بما ظهر منه، دون الأخذ بمفهوم موافقته ولا مخالفته ولا يقيسون عليه  ... وغير ذلك مما نعرفه من الاستدلال؛ ولذا قالوا مثلًا إنَّ الربا يكون  في ستة أصناف فقط هي: الذهب، والفضة، والشعير، والقمح، والتمر، والملح فهي الواردة دون غيرها في قوله – صلى الله عليه وسلم- :" «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» والفرق بين مذهب الظاهريَّة وبين هذا المذهب المنفلت أنَّ الظاهريَّة مذهبهم منضبط في فهم النصوص، فهم يلتزمون قواعد اللغة، وتفسيرات المفسرين، ويتفقون مع غيرهم من الفقهاء حول ما يدل عليه النص بظاهره، لكنهم يرفضون تعدية النص ليفيد أحكامًا لفروع لم ينطق بها؛ ولذا فهو مذهب مقبول يحترم، أمَّا هذا المذهب الذي يطلق العنان للإنسان مهما كانت درجته العلميَّة، وتوجهاته الثقافيَّة والفكريَّة، وقدراته اللغويَّة ومعرفته التفسيريَّة، ثم يقول إنَّ ما فهمه بهذه الأدوات المتفاوتة بين الناس فهم مقبول، فهذا شطط لم يذهب إليه إلا الماجنون كما سبقت الإشارة.

وليت أصحاب هذا المنهج التخريبي الذي يترتب عليه اختلاف الناس في الفرائض والثوابت، فتكون ثوابت الدين عند شخص تختلف عنها عند آخرين، حسب قدراتهم على الفهم وتفاوتهم فيه، ليتهم توقفوا عند هذا الحد؛ بل إنهم يقولون: إنَّ الإنسان يحاسب على حسب اعتقاده المترتب على فهمه للنص بنفسه، ولم ينتبه هؤلاء إلى مشكلة خطيرة تترتب على هذا القول وهي : تصحيح الصلاة بالدعاء فقط، وصيام المدخن أثناء النهار، وحل الخمر، وصحة صلاة كاشفة الرأس أو الحاسرة عن ساقيها وكتفيها!

ولو صح هذا المذهب للزمنا عدم الإنكار على الجماعات الإرهابيَّة والتكفيريَّة التي تستدل على تكفيرنا بالنصوص من القرآن والسنة، حيث يفهمونها كذلك، ويستدلون على استباحة دمنا بتلك النصوص، ونصوص أخرى نسمعهم يرددونها قبل قتلهم لضحاياهم كما تفعل داعش مثلًا، وإذا كنا سنطلق للناس حريَّة فهم النصوص فعلينا أن نقبل قناعاتهم وفهمهم، وإذا كان كلُّ إنسان سيحاسب على اعتقاده الذي كوَّنه بفهمه دون وصاية من أحد، فعلينا أن نقبل فكرة اعتبار هؤلاء المجرمين من الشهداء، وأنَّ قتلاهم في الجنة وقتلانا في النار!.

فيا هؤلاء عودوا إلى جادة الصواب وكونوا مع جماعة المسلمين وفي زمرة علمائهم، فإنَّ الحقَّ لا يخرج عن جماعتهم، فلا تغردوا خارج سربهم وحدكم، ولا تطربنكم عبارات الثناء من بعض الباحثين عن الانفلات من ضوابط الشرع وقيوده، ولا أولئك الذين يرون في أقوالكم تحقيقًا لمصالحهم الضيقة، فهؤلاء وهؤلاء لن يدخلوا معكم قبوركم، ولن يدفعوا عنكم ولاعنهم عذاب ربكم. اللهم

نقلا عن: صوت الأزهر 

تعليقات