ابن محمود.. موسوعي العصر الحديث

  • معتز محسن
  • الخميس 31 أكتوبر 2019, 4:18 مساءً
  • 868
الكاتب معتز محسن

الكاتب معتز محسن

تمر اليوم الذكرى العاشرة على رحيل رمز من رموز الفكر والتبحر في عالم الأكوان وطلاسم الحياة، متمنيًا أن يصل للمستقر حسب التوغل في كل ما هو موجود بالكتب والأسفار ما بين السماوية والبشرية، كعادة من يعيشون في الحقيقة من فلاسفة وأنبياء ومفكرين وعلماء.

إنه العَالِم الذي أعاد للموسوعية رونقها في عالمنا الحديث رغم ترسيخ مبدأ التخصص ، مؤكدًا أنه لا غنى عن الإبحار في الحياة بنظرة شمولية، تعطي للإنسان القيمة فيما يصبو إليه بعمق وشفافية تجمع بين مجالات شتى في قالب  واحد يأخذ صفة المكتبة العامة قبلة من يشتهي النهل من زهور متعددة  بالبستان الواحد.


إنه العالم الجليل الدكتور مصطفى محمود الذي ظهر في عصرنا الحديث برحيق العصور الوسطى المستنيرة في عالمنا الإسلامي، مرسخا لمبدأ الموسوعية في الجمع بين الطب والمنطق والفلسفة والأدب والعلوم المختلفة تحت مظلة الدين ليكرر لنا نسخًا تاقت إليها النفس ما بين ابن سينا، أبو حامد الغزالي، الفاراب ، الكندي، ابن رشد .......و غيرهم ، ليذوق ما ذاقوه من استقبال سهام البُغض والرفض، كعقاب قاسٍ لإعمالهم لعقولهم لكبح جماح الظلام الذي ساد من خفافيش ترفض النور والضياء.

هذا ما واجهه "محمود" في الخمسينات والستينيات، أثناء اشتعال فتيل الأزمة بين اليمين واليسار، مُحيرًا الجانبين في ديدنه وفحوى فكره لنظرته الأعم والأشمل ليواجه ما واجهه الأجداد من إقصاء واتهام بالإلحاد والهرطقة في العام 1960 عقب صدور كتابه الأزمة "الله والإنسان" لتوجه له الألسنة الرافضة بين دفتي الوطن ليُصادر بقرار قضائي كما حدث لكتاب "في الشعر الجاهلي" لعميد الأدب العربي في العام 1926 و"أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ في العام 1959، وكأن العقاب يطول كل من يفكر حتى وإن طالته الشطحات ، ليُكتب عليه الردع دون نقاش أو تفاهم يؤدي لما نشتكي منه الآن من عنف وتحفز جعل من الحياة سطحُ من لهب.

بناءً على تلك اللقطات الهامة في حياة الموسوعي الكبير ، تأرجح منذ طفولته بين جميع الأفكار باحثًا عن من يشعره بوجوده كإنسان لا يحيا من أجل دوافع حسية، لا تفرقه عن الكائنات الأخرى مستعينًا بما ميزه الله عن سائر خلقه لبني البشر ألا وهو العقل، ذلك الوعاء البلوري المليء بما يخطط له على وجه البسيطة من علم وفن وفكر وفلسفة وسياسة مع استنباط ما يُدخر له مستقبلاً من خلال رحيق المنهج التجريبي أو الاستقرائي الذي وضعه العالم العربي الكبير الحسن ابن الهيثم وتلاه في التعمق والتنظير في عصر النهضة البريطاني فرنسيس بيكون.

سار "محمود" على هذا النهج متنقلاً كالنحل من زهرة لأخرى دافعًا ثمن توقه للصواب والأصلح الكثير والكثير ، متخطيًا كل العراقيل ما بين تبحر في الفلسفة والتشريح مع استلهام ما ورد في الكونفوشيوسية والبوذية والزرادشتية متمرسًا اليوجا منفصلاً عما يدور من حوله، كي يعرف إلى أين تتجه بوصلة البشرية؟!

في هذا النطاق كتب أبو الساخرين كامل الشناوي وهو ينقد رواية "المستحيل" لمحمود تلك الكلمات: "إذا كان مصطفى قد ألحد، فهو يلحد على سجادة الصلاة!!" ، كلمات تحمل في طياتها العديد من الاستفهامات وذلك للخلفية المسبقة التي حملها في طفولته حينما سأل عن الله لشيخ الكتاب، فضربه بالعصا لجرأته المبكرة على هذا السؤال للتباعد المسافة بينه وبين اليقين لعقود مديدة.

من خلال تلك الذكرى المثيرة أبحر الموسوعي في كل المجالات متموجًا بين شك ويقين، صعود وهبوط، رفض وترحاب، شد وجذب مسافرًا بين الرواية والقصة والمسرحية وأدب الرحلات إلى أن استقر بين دفتي كتابه الأشهر في العام 1970 "رحلتي من الشك للإيمان" معلنًا عن استقرار السفينة في مرسى اليقين موثقًا مشواره الطويل ببرنامجه الأشهر "العلم والإيمان" سنة صدور سِفر اليقين المطلق.

هكذا سار على درب الغزالي في أوقات الشك والقلق كي يفوز العقل بالإيمان عن فكر ويقين تام، لا عن فطرة مُكرهة ولا ميراث جبري لا يُولد إلا الكفر والتمرد من أجل أوهام براقة، لا تجلب لصاحبها إلا الضياع والإنصياع للمجهول.

تعليقات