فاضل السامرائي يكتب: وقفات مع سورة مريم

  • جداريات Jedariiat
  • الأربعاء 24 يناير 2024, 03:17 صباحا
  • 422
مريم

مريم

أكد الباحث والمفكر الإسلامي الكبير، الدكتور فاضل السامرائي، أن الله سبحان وتعالى، فطر الخلق على حب الأبناء, بل جعلها غزيرة بشرية، ولكنه كما في كل الرزق الذي يرزقنا به يحب أن نستعمله في طاعته تعالى ومرضاته, والله تعالى يريد من عباده أن يجعلوا أولادهم حفظة للدين حتى تتوارثه الأجيال كما نورث أبناءنا المال من بعدنا، مشيرا إلى أن حب الأبناء أمر فطري, ولكن للذرية هدف أسمى من المتعة الفطرية بهم ألا وهو حفظ الدين للأجيال. ولذا فإن أكثر كلمتين تكررتا في سورة مريم هما "الولد والوراثة".

وتابع: بالنسبة لمسألة وراثة الدين، فإن سورة مريم تبدأ بالحديث عن وراثة الدين التي تمثلت في دعوة سيدنا زكريا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، آية 5 و 6 إلى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) آية 12 نتيجة الدعاء. والسبب الذي من أجله طلب زكريا الولد هو أن يرث الرسالة والكتاب، كما هي الحال في آل عمران, فزوجة عمران وهبت ما في بطنها لله وزكريا يريد ابناً يرث الدين من بعده ومريم وعيسى ثم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم إسماعيل وأولاده فكل هؤلاء آباء تورث أبناءهم هذا الدين. الأمر واضح, صدق سيدنا زكريا ربه بدعائه وعلم الهدف حقًّا فاستجاب له تعالى بأن وهبه سيدنا يحيى الذي آتاه الحكم صبيا.

 

وأردف قائلا: إن النموذج الثاني في السورة و سيدنا عيسى (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * …* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) آية 30و 32. وجاءت كلمة البر على لسان عيسى ويحيى، لافتا إلى أن هذا لأن أهلهم ربوهم ليرثوا هذا الدين, فكان الأبناء بارين بأهلهم وهذا دليل حسن الخلف لخير السلف.

وأوضح أن قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، هي بمثابة نموذج عكسي لما سبق؛ إذ أن إبراهيم هو الذي كان ينصح أباه المشرك برفق وأدب ورقة, تكررت كلمة (يا أبت) أربع مرات, ولمّا لم يستجب له أبوه واعتزلهم وهب الله تعالى له إسحاق ويعقوب ليكونوا من ورثة دينه الحنيف (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) آية 49 .

وأكمل: ثم تصل الآيات إلى سيدنا إسماعيل(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) آية 55 وكيف كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، منوها إلى أن التعقيب في قوله تعالى (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبراهيم وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) آية 58, وتذكر الآية الذرية الصالحة الذين يتوارثون الدين والرسالة جيلاً وراء جيل. نلاحظ تكرار كلمة (ذرية) ويأتي مقابل هذا الإرث من لم يطبق هذا الأمر (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) آية 59, كيف سيحلّ عليهم عذاب الله. ونرى بديع سياق الآيات القرآنية وكأنها بناء متماسك يطلب توريث الأبناء الرسالة والمنهج الحق ويعرض عقوبة الذي يخالف هذا المنهج.

وأضاف: أنه من سياق الآيات نلاحظ أن ثلاثة أرباع السورة تقريباً تحدثت عن حاجة البشر للولد ونماذج مختلفة بأسلوب رقيق, فجاءت فواصل الآيات رقيقة عذبة لأن الولد نفسه يمثل الرقة والحنو والعطف, وقد وردت كلمة الرحمن في السورة 16 مرة. أما الربع الأخير من السورة فجاءت الآيات تنفي حاجة الله تعالى للولد وهو خالق الخلق كلهم, وجاء أسلوب الآيات قاسياً وفواصل الآيات شديدة لأن هذا الأمر تخر الجبال له وتكاد السموات يتفطرن وتنشق الأرض منه, فالله تعالى واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد لا إله إلا هو لا شريك له وما اتخذ صاحبة ولا ولدا سبحانه وتعالى عما يقولون ويفترون.

وختم السامرائ كلامه قائلا: إن سورة مريم سميت بهذا الاسم تخليدا لمعجزة خلق إنسان بلا أب, ولأن الأم التي تمثلت في مريم عليها السلام هي المؤسسة والمورثة الحقيقية للأبناء وهي تمثل نموذجاً للمصاعب والمحن التي يواجهها توريث الدين للأبناء وهي سيدة نساء العالمين الطاهرة العذراء البتول.

 

 

تعليقات