باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
اعتراضات هيوم حول المعجزة
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسل الله، أما بعد:
يعرّف هيوم
المعجزة بأنها: «خرق لقانون من قوانين الطبيعة بإرادة إلهية خاصة أو بتوسط فاعل
غير مرئي»[1]. وهذا غير مُسلّم له، من وجوه: الوجه الأول: أنها ليست خرقا، بل هي
مجرد توفر لشروط إضافية غير معتادة، أو بعبارة أخرى مجرد إدخال لسبب خارجي. والوجه
الثاني: أن كل شيء عند المسلمين هو بإرادة إلهية وليس المعجزة وحسب، ولهذا التعريف
الصحيح أن يقال: «دال على إرادة إلهية».
وأنبه قبل
الشروع في الرد، على التناقض inconsistency الحاصل بين طرح هيوم هذا في نقض المعجزة وبين باقي أقواله : لا يتسق
اعتراض هيوم على المعجزة مع تصوره
للسببية، فهيوم يرى أن السببية مجرد اقترانات conjunctions متكررة، فنحن نقول أن النار تحرق
لمشاهداتنا مراراً وتكراراً أن الحرق يعقب النار، فليس هناك تبرير عقلاني لضرورة
الحرق وإنما هي مجرد عادة نفسية نشأت من التكرار. وبالتالي فإن كوناً ممكناً مثل
هذا الذي يتصوره هيوم، لا بد أن يسمح بأي حدث استثنائي لا أن يمنعه أو يعتبره
خارقــا، والمناسب لمنع المعجزات هو نموذج الانغلاق السيبي الطبيعي Closed Natural Causation
ثم إن القوانين واصفة لعمل الطبيعة (descriptive) وليست ذات إرادة على الكون (prescriptive)، فنحن نصنع صورة القانون
في أذهاننا خلال وصف عمل الطبيعة ؛ وليس في ما هو وصفي ما يمنع أن يتغير حاله أو
يتعطل لعارض عند العقلاء ! ثم إن علمنا ببعض النظام السببي والشروط الاعتيادية
المتوفرة، لا يعني علمنا بكل النظام في جميع حالاته، فهناك فرق بين النظام في الخارج
وهو الطبع السبيي في الأشياء، والنظام في علمنا وهو التقدير الاحتمالي لتوافر
مؤثرات ونتائج معينة كما تفيد العادة بلا زيادة او نقصان، فهو إذن احتمالي !
من حيث المبدأ
يقلل "هيوم" من شأن الرواية أو الشهادة testimony
بشكل
عام، فالشهادة ليست إضافة معرفية بجوار الخبرة، بل هي تابعة للخبرة، فالخبرة وحدها
هي التي تعطي الشهادة البشرية سلطة[2] ولولا أن الخبرة قالت بأن البشـر تـمـيـل
فـي الـعـادة الإخبار بالصدق والاستقامة، والشعور بالخجل من كشف كذبهم: لمـا كنـا
أولينـا الشهادة البشرية أدنى ثقة[3].
يقول هيوم -
لعنه الله - : «إن أي شهادة لا تكفي لإثبات معجزة إلا إذا كانت الشهادة من النوع الذي يكون كذبها أكثر إعجازاً من الواقعة التي تحاول إثباتها، وحتى في هذه الحالة يحصل دحض متبادل للحجج وتعطينا الحجة الأقوى وحدها يقينا متناسباً مع درجة القوة الباقية بعد طرح القوة
الأضعف»[4]. ويريد هيوم أن علمنا بصدق الشهادة testimony حصل بطريق العادة (أو بطريق استقرائي)،
والمعجزة خرق للعادة، فهذه عادة وهذه عادة فبأي شيء رجحنا إذن؟ وأقول وبالله
التوفيق مبينا عورة كلامه وضعف احتجاجه: أصل اعتراض الدهري هيوم مقدمة مضمرة هي
"تساوي العادات" من كل وجه، وافتراض تعارضها، لا تكاملها.
والحق أن العلاقة بين العادات إنما هي علاقة تكامل لا تعارض كما سيأتي بيانه، وحتى
على التسليم بسفسفطة تساوي العادات، فإن نوع العادتين هنا مختلف، فالأول وهو صدق
التواتر عبارة عن عادة ابستمولوجية، وذلك أننا مجبولون على معرفة قرائن الصدق
والكذب ببداهة العقل، ويكفي لإلزام المعارض الدهري أن نسأله: هل يثبت وجود معايير
عقلية لمعرفة الصدق من الكذب؟ فإن قال نعم ثبت مطلوبي، وإن قال لا لزمه ما لا أحصي
عددا من الشناعات، ومن ذلك الشك في اللغة نفسها، إذ أننا إنما نتعلم اللغة من تواتر الاستخدام البشري حولك لهذه اللغة
المعينة، فإن لم يصح في العقل معيار ضروري نميز به الصدق من الكذب، فليس لك أن
تصدق استخدام من حولك من البشر للغة ! وأما نوع العادة الثانية وهي اطراد السنن
الطبيعية فهي عادة أنطولوجية وجودية، فكيف يصح -على التسليم بإمكان تساوي العادات-
بمساواة لا متساو، فنوع العادتين مختلف، فالأولى ضرورية والثانية احتمالية.
ثم إننا لا نسلم
بأن هناك معارف حصلت بطريق استقرائي محض، أو بمعارف حصلت بطريق استنباطي محض،
وإنما هي خليط بين الأمرين اعتمادا على الضرورات الفطرية البدهية.
وعرض هيوم نوعا
من الصدام المزعوم بين شهادة الأغلبية أنّ القوانين الكونية لا تنخرم، وشهادة قلة
من الناس تزعم انخرامها بعض أحيان[5]، وهي حجة ظاهرة البطلان، فالخلاف في وقوع
أعيان المعجزات لا في جنسها، وبالتالي وجب مقارنة عدد من زعم معاينتها بمن زعم
خلاف ذلك. واعلم وفقك الله للحق أن هناك فرق بين العادة اليومية، وبين العادة
المخصوصة، فهب أن قوما مثلا يعيشون في أرض لا يحصل فيها زلازل، فقدر الله أن حصل
زلزال يوما، فهذا الزلزال هو بالنسبة إلى هؤلاء القوم عادة مخصوصة لا نظير لها في
عادتهم.
وبالتالي حتى
على التنزل، كما سبق ونبهنا، فإن العلاقة بين العادات إنما هي علاقة تكامل لا
تعارض، فالإنسي مخلوق مفتقر ممكن ليس له العلم الإلهي الكلي، بل علمه ممكن جزئي،
فإن نُقلت له عادة مختلفة لا نظير لها في عادتنا، يكفي أن يُقال أن عادته عادة
مخصوصة، والعادة الأخرى عادة مخصوصة أخرى ولا تعارض.
فالناس بفطرها
تصدق الخبر عن العادة المختلفة عن عادتها إذا ثبت عندهم صدق الناقل، أو تواتر
عندهم ذلك، ولا تتوهم التعارض أو التناقض كما هو لازم على مذهب هيوم، ومن ذلك
تصديقهم لانعدام الجاذبية خارج الغلاف الجوي، بناء على شهادة مجموعة من المتخصصين،
مع أن العادة المحكمة فيما يرصده عامة الناس على الارض هو وجود الجاذبية، فالناس
إنما قدمت شهادة الأقلية على الأغلبية لقرينة، وحتى العلماء التجريبيين إن اكتشفوا
ظاهرة جديدة لا نظير لها في عادتهم، يربطوها بجميع القوانين السابقة، فلا يقولون
أنها خرق للعادة، بل يقولون هي مجرد عادة مخصوصة.
ومن صور قلب
الدليل على القوم أن نقول: على أصول هيوم ليس للدهرية اليوم أن يصدقوا بنظرية
التطور، وذلك أن لا نظير لها في عادتنا، والدهري إنما علمها بطريق الخبر عن
المتخصصين، فلزم تعارض العادات على المنطق الهيومي السخيف!
هذا وصل اللهم
على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1]
David Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding, pp 76-77
[2] المرجع السابق، ص173
[3]
المرجع السابق،
ص 155
[4]
المرجع السابق،
ص 159
[5] المرجع السابق، ص129