حوار مع صديقي الملحد: إذا كان الله قدَّر عليّ أفعالي فلماذا يحاسبني؟

  • جداريات Jedariiat
  • الثلاثاء 19 ديسمبر 2023, 9:13 مساءً
  • 556
د. مصطفى محمود

د. مصطفى محمود

قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة:

أنتم تقولون إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا، فإذا كان هذا هو حالي، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها؟

لا تقل لي كعادتك.. أنا مخيـَّر.. فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك:

هل خُـيّرتُ في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني؟

هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر؟

هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة.

 

لماذا يُكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه؟

وإذا قلت إنك حر، وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشيئات؟

ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون؟

أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفن..

 

قلت له في هدوء:

أنت واقع في عدة مغالطات.. فأفعالك معلومة عند الله في كتابه، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه.. إنها مقدَّرة في علمه فقط.. كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني.. ثم يحدث أن يزني بالفعل.. فهل أكرهته.. أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك..

 

أما كلامك عن الحرية بأنها فرية، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها.. هو تخليط آخر..

 

وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنين..

 

أنت تتكلم عن حرية مطلقة.. فتقول.. أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً.. هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها.. أين حريتي؟

ونحن نقول له: أنت تسأل عن حرية مطلقة.. حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده.. نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } 68 سورة القصص

ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء ويختار..

 

ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف.. وأنت في هذا المجال حر.. وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها..

 

أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة..

 

أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك..

 

أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب..

 

وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام..

 

وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين..

 

وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة..

 

في هذا المجال نحن أحرار..

 

وفي هذا المجال نُحاسَب ونُسأل..

 

الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليف..

 

وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ، وبالراحة للعمل الطيب.. ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات..

 

ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى، ويدنا وهي تكتب خطاباً.. فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية، والحركة الثانية حرة اختيارية.. ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقة..

 

ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط.. فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها.. ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار، وأنه فطرها حرة..

 

ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} 106 سورة النحل

والوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة أن بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة، وانفراد بالأمر، فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره، ويحكمون كحكمه، وهذا ما فهمته أنت أيضاً.. فقلت بتعدد المشيئات.. وهو فهم خاطئ.. فالحرية الإنسانية لا تعلو على المشيئة الإلهية..

 

إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة..

 

الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه"، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته.. وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية..

 

وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة..

 

وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره.. ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً..

 

إن حريتنا كانت عين مشيئته..

 

ومن هنا معنى الآية: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ } 30 سورة الإنسان

لأن مشيئتنا ضمن مشيئته، ومنحة منه، وهبة من كرمه وفضله، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه..

 

والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره.. فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه..

 

والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير.. فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً.. وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة:

{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 4 سورة الشعراء

والمعنى واضح.. أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة، ولكننا لم نفعل.. لأنه ليس في سنتنا الإكراه..

{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } 256 سورة البقرة

{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } 99 سورة يونس

ليس في سُنة الله الإكراه..

 

والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم.. وإنما على العكس..

 

الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته.. ويشاء له من جنس مشيئته، ويريد له من جنس إرادته، لا ثنائية... تسيير الله هو عين تخيير العبد، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته..

{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا } 20 سورة الشورى

{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } 10 سورة البقرة

{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } 17 سورة محمد

وهو يخاطب الأسرى في القرآن:

{ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } 70 سورة الأنفال

الله يقضي ويقدِّر، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب.. إن شراً فشر وإن خيراً فخير..

 

ومعنى هذا أنه لا ثنائية.. التسيير هو عين التخيير.. ولا ثنائية ولا تناقض..

 

الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر، ولا قهر لنا على غير طبائعنا..

{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } 5 سورة الليل

{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } 17 سورة الأنفال

هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب، فتكون رمية واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر.. على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر..

 

والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة..

 

الإنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم.. باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن يطوي الأرض، ويهزم المسافات، ويخترق قيود الزمان والمكان.. وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته، وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام، وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل..

 

العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية..

 

أما الوسيلة الثانية فكانت الدين.. الاستمداد من الله بالتقرب منه.. والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد.. وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم..

 

سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة الله ومدده..

 

وشق موسى البحر.. وأحيا المسيح الموتى.. ومشى على الماء.. وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى..

 

ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات..

 

وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه.. فأفاض عليهم من علمه المكنون..

 

إنه العلم مرة أخرى..

 

ولكنه هذه المرة العلم "اللدني"..

 

ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً في كلمتين:

الإنسان مخيَّر فيما يعلم..

 

مسيَّر فيما لا يعلم..

 

وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته.. سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي..

 

ويخطئ المفكرون الماديون أشد الخطأ حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية.. ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات لا فكاك له، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع، كأنما هو قشة في تيار بلا ذراعين وبلا إرادة..

 

والكلمة التي يرددونها ولا يتعبون من ترديدها وكأنها قانون: "حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي، لأنه لا حتميات في المجال الإنساني، وإنما على الأكثر ترجيحات واحتمالات.. وهذا هو الفرق بين الإنسان، وبين التروس، والآلات والأجسام المادية.. فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين.. أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ في نياته، وماذا يفعل غداً أو بعد غد.. ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين، وذلك على فرض توفر المعلومات الكافية للحكم..

 

وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس، فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ، بل في بلد متخلف، ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، بل تقارب الاثنان إلى حالة من التعايش السلمي، وأكثر من هذا فتحت البلاد الشيوعية أبوابها لرأس المال الأمريكي.. ولم تتصاعد التناقضات في المجتمع الرأسمالي إلى الإفلاس الذي توقعه كارل ماركس، بل على العكس، ازدهر الاقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخلاف بين أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته..

 

أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي.. ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع اللاطبقي بين الصين وروسيا، وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه.. وكلها شواهد على فشل الفكر المادي في فهم الإنسان والتاريخ، وتخبطه في حساب المستقبل.. وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري، هو أن الفكر المادي تصوَّر أن الإنسان ذبابة في شبكة من الحتميات.. ونسي تماماً أنّ الإنسان حر.. وأن حريته حقيقة..

 

أمّا كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف، وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته في فراغ..

 

نقول ردّاً على هذا الكلام: إن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلي لهذه الحرية ولا ينفيه.. فالحرية الفردية.. لا تؤكد ذاتها إلا ّ في وجه مقاومة تزحزحها..

 

أما إذا كان الإنسان يتحرك في فراغ بلا مقاومة من أي نوع فإنه لا يكون حراً بالمعنى المفهوم للحرية، لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها..

 

ـ من كتاب حوار مع صديقي الملحد للدكتور مصطفى محمود

تعليقات